5- عمل الحي، أو فقه النهوض بالكتل الشعبية
من الخلاصات المهمة التي جاءت في كتب الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، أن حالة السلبية والقعود والعجز المتراكم الذي أصاب ذات الأمة الإسلامية وجعلها مكبلة عن النهوض، مستسلمة لواقعها، متخلفة عن ركب الحضارة، مدبرة في عمقها وإن أقبل بعض منها، كان مرده إلى قعود الناس وسلبيتهم وانزوائهم عن الشأن العام، وهجرانهم لساحات التدافع السياسي والفكري بفعل سطوة الاستبداد وطغيان الحاكم، الذي سلط السيف على الرقاب وجعل الشعوب تنسحب مجبرة إلى ساحات الأمان وفضاءات الاسترخاء، حيث يتعايش الناس بإسلام مشلول ويتبادلون آلامهم وآمالهم في حيز فسيح من الاهتمام والالتقاء، لكنه مضبوط بقواعد تؤصل لكل شيء ما عدا كل ما يفتل في كسر طوق السلطة والاستبداد. ليتشكل بذلك نمط حياة في جغرافية مجتمعية وبنيان عمراني مسيج بقواعد ثقافية وأنظمة عرفية صارمة، تزكي مشاهد الاستبداد في نفوس الناس وترسخ الطغيان 1.
واقع متجذر أكدته تجربة الربيع العربي حيث تم استخراج هذه الخلاصات بمرارة معيشة، انتكست معها بقية آمال المجتمعات العربية الإسلامية، ووطئ وقعها كل القلوب التواقة للحرية والعدالة الاجتماعية، ومنها أنه: “لا يمكن القطع مع الاستبداد والفساد إلا من خلال: “تعبئة شعبية عامة تنقل فئات واسعة من الشعب من واقع العزوف واللامبالاة والسلبية الناجم عن السياسة العبثية للمخزن إلى واقع المشاركة والرقابة والفعل الجماعي المسؤول” 2.
ذلك فمن يروم تغيير واقع الأمة والتأسيس لنهضتها وتعبئة الشعوب للانخراط في مسار التغيير بالمشاركة الفاعلة اليومية والمستدامة في تصحيح المنظومة المجتمعية المترهلة، لا بد له من التأسيس لفقه حركة الكثل البشرية المحلية، المتفاعلة بروابط إيمانية مسجدية، عبر خلق مساحات مجتمعية أخرى للتفاعل والتضامن والتعايش، تغمرها روح إيمانية متجددة ناهضة، وبوعي استراتيجي وسياسي يخترق الحاضر نحو المستقبل.
لا بد من تجاوز المنطق السياسي الحزبي الضيق والإيديولوجيا الحزبية المسيسة فقط التي تصوغ تدافعها المجتمعي في محطات النضال الفئوية وفي الفضاءات المغلقة، وبلغة البيانات والمواقف السياسية… والانكباب على تشييد ورسم خرائط تصورية للسياسة أوسع، تنبني على أسلوب التغيير القاعدي والمحلي عبر الكثل الشعبية العامة الموجودة بالأحياء الشعبية والجماهير المنظمة عبر جمعيات الأحياء وائتلافات محلية مواطنة، تؤطر عملها وزخمها بوعي سياسي مصاحب، وتوجه موجتها الصاعدة في بناء تراكمي يصل الوجدان بالعمران.
غير أن هناك شرطين حاسمين لا يجوز إغفالهما في هذه المعادلة:
1. الوضوح مع الناس في كل الخطوات؛ وضوحٌ يزكيه قصدٌ بيّن من عمل الحي، وهو استنهاض العامة للمشاركة والانخراط في هموم الأمة.
2. مخالطة الناس وإشراكهم في قضايا الحي، مع تشاورٍ عام في كل مراحل البناء، وفي كل صغيرة وكبيرة تتصل بشؤون الساكنة وهمومهم.
من عمق الأحياء الشعبية إذا يُبعث الإحياء وينطلق التغيير، في ثنايا الحي وبين دروبه وأزقته يخطو الرجال الحاملون لهموم الأمة ولمشروع التغيير خطواتهم الحاسمة والمساهمة في بناء الفرد والحي والمجتمع. هناك، حيث المساجد جامعة بثقلها الإيماني والاستراتيجي، يلتف حولها الناس، أبناء الحي الواحد، الحامل والمحمول، وهناك، حيث يغدو مكان انطلاق الحياة النشيطة بالحب والتآزر والانتماء، ومنه تفيض الطاقة المعبئة الضرورية لشحذ الهمم وإعدادها للمشاركة في إعادة بناء الإنسان والمجتمع 3.