صُلب المجتمع.. أفكار داعمة (2)

Cover Image for صُلب المجتمع.. أفكار داعمة (2)
نشر بتاريخ

العمل الجمعوي.. من الهامش إلى صلب السياسية

الصراعات السياسية هي جزء لا يتجزأ من عملية بناء أي مجتمع قوي وفاعل، فجل المجتمعات التي خاضت صراعا حول السلطة وعرفت تدافعا سياسيا بين مكوناتها، شعوبا وأنظمة، وأثمر الحراك حالة من الاستقرار السياسي والعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي، إلا وكان عماد ذلك مجتمع مدني صلب، بأفراده الفاعلة من عامة الناس، المنخرطة في هموم السياسة والمجتمع، وبمؤسساته الاجتماعية الشعبية، المستقلة عن الدولة والمرتبطة بهموم الناس ومصائرهم. وهو ما وصفناه بصلب المجتمع، حيث تصير معاني القوة والعمق والحضور الفاعل للجماهير في قضايا المجتمع والدولة هي الرهان الأساسي والشرط الحاسم لنهوض المجتمعات ووثوبها كي تخوض غمار تدافع سياسي وتغيير.

وقد ارتبط مفهوم المجتمع المدني في مراحل تشكله الأولى بمفاهيم السياسة والدولة والسلطة والديمقراطية والتغيير… مدعما لمقولة “دولة أقل ومجتمع مدني أكثر” في سياق مقاومته للأنظمة الاستبدادية السلطوية 1. وهو عكس ما عليه اليوم، حيث صار العمل الجمعوي الخيري المنزوي عن شؤون السياسة هو أصل تحرك الجمعيات ولب عملها، متماهيا بذلك مع السياسات الاجتماعية للدولة، خادما لها ومنفذا لبرامجها فقط، ليفتل بذلك عمل الجمعيات في تكريس الاستبداد والفساد عوض تقويضه وتفكيكه، وهي المفارقة العملية الصارخة والتحريف المعرفي المتعمد للأسف، حيث غدا المجتمع المدني قفصا بلا طائر وجسما بلا روح منتكسة ملامحه الخيرية المزيفة، المسترخية خارج موضوع السياسة وتجاذباتها الصلبة.   

لا شك أن هذا التزييف وهذا التحريف الذي طال العمل الجمعوي قد ساهم في بلورته وترسيخه بقصد أو بدون قصد، مجموعة من الأكاديميين والمثقفين، بل وحتى حاملي مشاريع التغيير، كلهم ساهموا في واقع انزواء المنظمات غير الحكومية والجمعيات والتعاونيات عن الشأن السياسي واهتماماته المتعددة، حينما يقرون ويزكون فعلا جمعويا وعملا تعاونيا خيريا، يسعى في كل الاتجاهات بدون بوصلة وبروح خيرية فقط وفي كل المجالات دون تمحيص في الأولويات والانتظارات، ودون استحضار للأبعاد السياسية في العمل، ولمقاصد التغيير وأولويات المرحلة. وقد تم تنزيل وتكريس هذه النظرة المختلة والقاصرة بمنهجية مدبرة وبخطط ومشاريع بعيدة المدى، وتم ترسيخها في كل الفضاءات العامة والخاصة وفي ثنايا المجتمع، بل وفي اللاوعي الثقافي الجمعي، حيث يُوجه رؤانا وسلوكاتنا، من دون وعي منا، باعتبار أن ذلك هو طبيعة الواقع وأموره 2. وهو أمر وجب تصحيحه وتداركه قبل كل شيء. وذلك بالتأسيس النظري والعملي للمنهج السليم في العمل الجمعوي الخيري والتعاوني القاصد، وبالمزج بين البعد الاجتماعي والسياسي في صلب المجتمع المدني، وجعل منطق النضال لأجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية هي الثقافة السائدة ونقطة الانطلاق التي تتفاعل من خلالها مؤسسات المجتمع المدني لتجاوز حالة السكون السلبي للجمعيات والتعاونيات التي غدت خارج سياق النضال السياسي، وبالتالي خارج المعنى الحقيقي التاريخي لفكرة المجتمع المدني 3. فهذا التأسيس لوعي الفرد والمجتمع المتراكم كما ونوعا، وهذا التغيير الذي يصيب الأفكار والأفراد بفعل عمل الجمعيات الإحيائي الفاعل هو الضامن الأساسي والمنطلق القاعدي لأي عملية تغيير ونهضة حقيقية تؤثر في الواقع وتغيره، لا مجرد ردة فعل لحظي تنفس عن غضب الفرد والمجتمع دون بديل حضاري يؤسس لنهضة شاملة 4.

ولتجاوز هذا المأزق لابد من:

1- إعادة الاعتبار لفكرة العمل الجمعوي في ذهن الفاعل السياسي والقيادات المجتمعية، والنظر إليه كمنظومة مجتمعية حاملة لمشاريع التغيير والنهوض العام، كجمعيات الأحياء والمنظمات الوسيطة والهيئات الاجتماعية الخيرية وغيرها من مؤسسات القرب، ثم النظر إليها باعتبارها ضمير المجتمع وضابطه الأخلاقي وحصنه المكين من نزعات الاستبداد والظلم والتسلط. ولا يمكنها الاتصاف بذلك دون حضورها الواعي والفاعل في المجتمع، في ارتباطاتها الوثيقة بالعامة من الناس، وارتباطها الضمني بتجاذبات السياسة والاقتصاد وسجالاتهما.

2- الاهتمام بجمعيات الأحياء بشكل خاص ومحدد، لبث الوعي السياسي في أوساط الشباب وترسيخ فكرة المشاركة الفاعلة في قضايا الشأن العام والاهتمام بشؤون المجتمع والتدريب على سلوك الترافع والتدافع والتشاور والتعاون، ثم ترسيخ منطق الإشراك بعد المشاركة، لتعم روح من التعاون الجماعي العام كل فئات الحي والمجتمع، مقوية أواصره ورافعة بذلك لمنسوب الوعي السياسي لدى العامة من الناس. وهو المطمح الاستراتيجي الكفيل بخلق حراك مجتمعي سياسي يروم التغيير وينخرط فيه كل الناس.

هي مراحل بنائية إذا، تبلّغ الواحدة منها الأخرى، وتنسج الوثاق المجتمعي الرحيم بإحكام، هو جهد علمي وعملي يباركه المولى سبحانه، يخوض غماره كل الناس، يتوسطهم المؤمن بقضايا العدل والتغيير، الساعي بحافز الإحسان، الباذل لجهد جهيد وصبر في الساحة وفي الميدان، يبذل ويعلم ويقوّم مسار التغيير الاجتماعي خطوة خطوة، والدرب شاق طويل وهو مشروع عمر. والحمد لله رب العالمين.


[1] كتاب المجتمع المدني وأبعاده الفكرية – البحث الأول: المجتمع المدني بين النظرية والممارسة للدكتور الحبيب الجنحاني.
[2] كتاب النقلات الحضارية الكبرى، أين نحن منها – د. مصطفى حجازي.
[3] المجتمع المدني، دراسة نقدية، عزمي بشارة.
[4] كتاب التغيير والإصلاح، مطالعة في التأسيسات والإشكاليات والمعوقات، إيمان شمس الدين.