كثيرا ما يتردد على مسامعنا، وتمر أمام أعيننا، عبارة “صناعة الرجال”، في إشارة إلى هذه المهمة الجليلة التي تقتضي إعداد الرجال بتربية أخلاقية وإيمانية وعلمية رصينة، إضافة إلى التربية الاجتماعية التي تحض على حسن التعامل واللباقة مع الأقربين والأبعدين، دون التغافل عن دور الذكاء الاجتماعي في علاقتنا مع الناس.
ولعل “صناعة الرجال” تحيلنا إلى التربية المحمدية وإلى الرعيل الأول من جيل الصحابة والصحابيات ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. تربية سهرت عليها عينا الحبيب صلى الله عليه وسلم، فنتج عنها رجال ربانيون؛ فرسانا بالنهار، رهبانا بالليل، لا يخافون في الله لومة لائم.. جيل أضاءت في شرايينه مشكاة النبوة وتوارثوها.
غير أن المصادر التاريخية والمراجع العلمية وغيرها من كتب السير والتراجم، غفلت في الكثير من الأحيان عن عبارة “صناعة النساء”، بل جعلت دورهن مكملا وليس صانعا للحدث، متمما وليس بنّاء، بالرغم من أن الخطاب الإلهي موجه للذكر والأنثى على وجه سواء.
والتربية المحمدية شملت صحابة وصحابيات، بل الأكثر من ذلك ساهمت مجموعة من النسوة ببصمة خالدة في الشخصية المحمدية وهو المصطفى المختار؛ فقد نما جنينا في بطن والدته آمنة الصابرة الوفية، وأرضعته حليمة السعدية في ديار بني سعد، وشهدت بل ساهمت “أم أيمن” في مراحل الطفولة والشباب حتى بعثته نبيا، وكانت له فاطمة بنت أسد أما بعد أمه، ليكون زواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها منعطفا جديدا في حياته، ومددا قويا في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأما لبناته وأبنائه.
ولعل ما ترويه كتب السيرة عن الأنموذج الأبوي في شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام يحتاج مصنفات ومؤلفات؛ فلا يسعنا الكلام عن رقته مع بناته، ولا حنانه تجاههن، في تكامل عجيب للطف لا نهاية له ولا وصف يدرك كمالاته في هذا الجانب.
بل وكان ينسب نفسه أحيانا لأمه، ففي معرض حديثه مع رجل قام بين يديه فأخذته رعدة ومهابة عظيمة، فقال عليه الصلاة والسلام بتواضع جم: “هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد” (أخرجه ابن ماجة).
صُنِعت على عينيه الشريفتين نماذج عديدة لنساء خلد التاريخ سيرهن، وأقر عليه الصلاة والسلام غير ما مرة بإعجابه بشخصيتهن وتفانيهن، فقال عليه الصلاة والسلام: “نِساءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ، أَحْنَاهُ على طِفْلٍ وأَرْعاهُ على زَوْجٍ في ذاتِ يَدِهِ” (رواه الشيخان).
لقد كان للمرأة المسلمة – وخاصة العربية – دور في نشأة نساء رائدات، ونجد في كتب التراث العربي وصايا عديدة من أمهات لبناتهن، ومن نساء لبنات جنسهن، وصايا في صيغتها الإيجابية من الحث على الأخلاق الحميدة، والحرص العفة والحياء، والمحافظة على كيان الأسرة…
في حين نجد الوصايا والنصائح التي تحض على المكر والخديعة واللؤم.. قليلة جدا، بل وأغلبها مكذوب موضوع.. مستحدث من نظام الجواري والقصور، مرتبط بما بعد الخلافة الراشدة، حيث انكسر وانتكس التاريخ، محدثا ضغائن الإماء والحرائر، في تقاتل مستميت على وراثة الملك والجاه.
صناعة النساء تتطلب القدوة الحسنة المتمثلة في النموذج النبوي من أمهات المؤمنين وصحابيات جليلات وتابعيات، ونساء كاملات كمالا تربويا وخلقيا وعلميا..
صناعة تعتمد في إعداد المرأة إعدادا يسمو بها من كونها مجرد أنثى إلى فاعلة مؤثرة، مربية، تصنع رجالا ونساء، هم وهن حجر الزاوية في بناء المجتمع.
بل هن الأساس المتين الذي يعتمد عليه في الأسرة وسائر جوانب الحياة، وهو أمر لا يخلو منه عصر ولا يتجاوزه الزمن.
ولعل الواقع المعيش يبرهن أنه ما زالت هناك نماذج يحتذى بها، وأن صناعة النساء أمر عظيم جلل يجب الالتفات إليه والعناية به، واستخراج درر تجارب نسائية على مدى التاريخ، في إماطة للثام التجاهل وتشويه الحقائق، وإعادة الاعتبار للدور الفعال لأمهات وأخوات وبنات ومعلمات وعاملات.. فاعلات ورائدات.