صرخة قروية في أعالي الجبال

Cover Image for صرخة قروية في أعالي الجبال
نشر بتاريخ

وا رباه ! وا إسلاماه ! وا عمراه ! ألست فتاة كباقي الفتيات؟ أليست لي أهداف وطموحات؟ ألا يحق لي أن أتعلم كما تعلمت  بنات جنسي في المدن؟ أيعيبني أني قروية أن أكون طبيبة ومهندسة وعالمة فلك..؟ أأحرم في عصر التكنولوجيا من أن أسوق سيارة وطائرة و…؟ لماذا تقبر أحلامي وطموحاتي؟ لماذا تغتال إرادتي؟ أنا أحب الدراسة والمعلمين ورائحة الطبشور، لكم كان يسعدني أن تطلب مني معلمتي أن أحل مسألة استعصت على زميلاتي وزملائي في القسم، فأقوم بنخوة واعتزاز وأحلها فتثني علي أستاذتي ويصفق لي زملائي. لماذا تحرمونني وتزجون بي في مستنقع الجهل والحرمان، ثم تثقلون كاهلي بأعمال شاقة هي من اختصاص الرجال كالسقي والاشتغال في الحقول ورعي الأغنام وغيرها..؟

هذا حال كل فتاة قروية يمنعها والدها من إتمام دراستها، فتقبر أحلامها وطموحاتها، وتغتال إرادتها وجدها واجتهادها، ويزج بها في مستنقع الجهل والحرمان.

ولعل من الدوافع التي تجبر الأهل على الإقدام على هذا الفعل، إضافة إلى النظرة القاصرة للفتاة كون مكانها الطبيعي في البيت فلا حاجة لها في هذه الحياة إلا تعلم أعماله، الفقر والخوف من عار الاغتصاب أو الاعتداء الذي قد يلحق بها أثناء ذهابها إلى مدرسة تبعد عدة كيلومترات عن قريتها النائية، فتضطر المسكينة إلى قطع أميال ومسافات طويلة غير مؤمّنة، مما قد يعرضها لأي اعتداء أو خطر يخيف والدها فيرغمها  على الانقطاع، خاصة وأنه لا يستطيع تحمل نفقة تدريسها في المدينة.

فتظل المسكينة تتابع الدخول المدرسي بحزن وألم شديد، ومنهن من كانت تحتل الرتبة الأولى في مدرستها، وكان أساتذتها يرسمون لها أهدافا كبيرة، ويحفزونها لتحقيق أحلام سرعان ما تتلاشى أمام هذه الصعاب كلها، ولا يبقى منها إلا البؤس والخيبة، تعتصر القلب وتزيده حسرة وكمدا..

والأدهى والأمر أن تجد المدارس الخصوصية في المدن ما إن يقترب الدخول المدرسي حتى تتهافت على عرض بضاعتها  في أبهى الحلل على مواقع التواصل الاجتماعي؛ ساحات مزينة، وأقسام مرتبة، وسيارات مصطفة، والألوان المختلفة تجذب الكبار قبل الصغار… فتشاهد المسكينة سيارات تقل المتعلمين من بيوتهم إلى المدارس، وأنشطة متنوعة، وسعادة تغمر الأطفال وهم يلتقون بأصدقائهم، وهي التي كانت تقطع الجبال والوديان، لتصل إلى شبه قسم، بابه مكسر والنوافذ منعدمة، وسقفه المترهل بدأ يتساقط ليفسح المجال للمطر والثلوج أن تشارك المتعلمين حصة الدرس… ومع ذلك تود لو سمح لها بالذهاب إليه لتستطيع تحقيق هدفها. لكن المسكينة تتجرع مرارة الحرمان في صمت، فتلعن في داخلها واقعا مريرا، وتلعن الفقر والقرية والتهميش، والأكيد أنها – عندما تتوسع مداركها – ستؤاخذ من أهمل القرى وعرضها للضياع، وجعل منها موطنا للبؤس والفقر، وتركها رحى تطحن ساكنيها.

ومن ثم تجد القرويات يتمردن على حياة الفقر والبؤس هاته، فيهاجرن إلى المدينة بحثا عن عمل، فيضاف إلى بؤسهن وجهلهن بؤس وجهل آخر، ومن الجهل ما قتل، وإن الجاهل ليفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به. وقد سلط الإمام عبد السلام ياسين الضوء على هذه المعاناة بقوله: «أما أسراب الأميات وأنصاف الأميات غير المؤهلات فطريقهن مشرع إلى سوق النخاسة البشرية والزنا مباشرة» (تنوير المؤمنات، 1/96). ويصف رحمة الله عليه بشكل دقيق حال القرويات اللواتي يهاجرن إلى المدينة قائلا: «طفلة جاءت من باديتها في ربيع العمر، تكتشف بهرج المدينة، وتشاهد ما يؤجج شعورها بالحرمان من متاع الأخريات المدنيات، وترفهن وألبستهن… ثم لا تجد من سبيل للتقرب من عالم الرفاهية إلا أن تسعى للخدمة في بيوت من يذيقونها علقم الحياة بينما هم يكرعون من لذات الحياة» (تنوير المؤمنات، 1/96).

كيف لأمة أن تنهض من سباتها وشطر منها يوأد؟ أزهد المجتمع في المرأة القروية؟ والمرأة نصف المجتمع، بل قد تكون المجتمع كله لو تعلمت وفقهت وعرفت وظيفتها الحقيقية في هذا الكون. فإن هي صلحت وعرفت برجها الاستراتيجي وأتقنت حافظيتها، فإنها ستنشئ النواة الأولى الصالحة في المجتمع والتي هي الأسرة، ومنها ينطلق الصلاح والتغيير، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: «فالنساء إن صلحن كن الركن الركين في بناء المجتمع الإسلامي المتجدد، فعلى المؤمنات أن يعرفن جبهتهن، وعلى رجال الدعوة قبل قيام دولة الإسلام أن يعطوا لبؤس المرأة وحرمانها وظلمها ما تطلبه من النصفة  أولى الأولويات» (المنهاج النبوي، 143). رحم الله الإمام الذي رسم للأمة سبل إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما لبث يوصي بالنساء خيرا حياته كلها، بل وحتى في اللحظات الأخيرة منها. حفظ الله بناتنا في القرى والمدن وجعلهن ذخرا للأمة. آمين والحمد لله رب العالمين.