كيف لصرخة الهوية الدفينة في أعماق المغاربة تسكن شغاف قلوبهم، وإن حادت أحوالهم أحيانا، أن تلاقى بكل ذلك الغل الذي يختزل قرون الاستبداد في عصا غليظة تهوي، ليس فقط لتهشم العظام والرؤوس وتقمع الحرائر والأحرار من أبناء الوطن، بل لتصادر الحق في الدفاع عن إيمان الناس واختياراتهم. ولا شك أن دولة تعنف نساء يمارسن حق الاحتجاج بكل ذوق وتحضر، لهي دولة فرعونية يلهج لسان حالها بـمَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ.
لن تكون الديمقراطية في بلدي الحبيب أكثر من لوحة إشهارية تبشر بمنتوج تشرئب له هامات الأحرار والحرائر، بينما نتائج امتحان الواقع تغرقك في حضيض سرقة الحقوق وكتم الأنفاس، فهي دولة الاستثناء في كل شيء، ومن كرامات الاستثناء أن ننعم بديمقراطية على النمط المغربي ممسوخة، تلوح بالعصا وتعد بالجزرة لتحد حدود دائرة المخزن بين الخوف والرجاء، في مقايضة خسيسة لاستقرار يجنبنا مآل الحال الذي أغرق فيه الجيران، مقابل صمت عن المطالب بالحرية والكرامة والعدالة؛ صمت عن الفساد والاستبداد.
والحديث عن الديمقراطية يجر إلى المقارنة التي تترك في القلب غصة، ففي الدول التي تحترم مواطنيها يرتبط الموظف أو المتعاقد مع الدولة بعقود تجعل الطرفين على نفس المنزلة، الفيصل الأوحد بينهم قانون يتساوى الجميع أمام طائلته. لكن الأمر يختلف في دولة ديمقراطية الاستثناء، إذ يتعلق بعقود إذعان تجعل الصمت والخنوع مقابلا للخبز، عقود إذعان تسرق الكرامة وتسفه الأحلام. لم يع المخزن بعد أن المواطن ليس حيوان ضيعة يفعل به ما يشاء وقد يسلمه للذبح إذا شاء، لذلك أغاظته انتفاضة الضمائر الحية في دوار أولاد الشيخ التي رفضت الظلم، ولم تجد في إعفاء إمام تعلقت به مصالحهم وقلوبهم مسوغا يقبلون به فكان التفافهم حوله ناقوس خطر أدخل الرعب إلى حصون الاستبداد الذي قرأ في أبعاد ثورتهم رفضا لبضاعته الكاسدة التي يقدمها أئمة يسبحون بحمده ويدعون الناس إلى التسبيح. فالإمام في عرف المخزن قناة لتصريف سياساته وتثبيت دعائمه، فهو رقم معول عليه لا يجب أن يخرج عن السيطرة، رقم مهم في نشر ثقافة الإذعان، ومن شروطه ألا يحصل بشأنه إجماع، فقد خبر المخزن الدرس التاريخي جيدا حين التف المقاومون حول خطباء وأئمة المساجد يزرعون في وعي الناس أن تخليص الوطن من ربقة الاستعمار جهاد في سبيل الله، لذلك كان الخطر في وعي يعلم الناس أن الخلاص من ربقة الاستبداد يكمن داخل المساجد بين ثنايا هوية راسخة حسبها الاستبداد ضائعة حيث عمل جاهدا لطمس معالمها، وإلا كيف نقرأ تشبث أبناء قبيلة أولاد الشيخ بخطيبهم سعيد الصديقي الذي طاله شطط السلطة بعزله عزلا خارج القانون ودون مبرر؟ بل المهم هو كيف تقرأ السلطات المخزنية هذا الالتحام حول قضيته رغم ما لوحت به من وعيد وصل إلى حد التهديد بإغلاق بيت الله في حال إصرار الساكنة على حقها في الاحتجاج ضد قرار العزل، وعيد لم يثنهم عن عزمهم بل زادهم إصرارا وثباتا على الموقف؟ ولربما تلتقي القراءتان، فقد ينظر إلى الأمر على أنه التقاء للمصلحة بالوفاء، التقاء حقق إجماع الساكنة من كل الأطياف التي كان منها أعضاء في المجلس الجماعي، وفاء لإمام عرفوه بصلاحه وورعه وخلال سنين طويلة من حياته ربى أجيالا من أبنائهم فكانت تربيته حصنا لهم من متاهات الحياة ومنزلقاتها المهلكة. لكن المخزن الذي ينشر الرذيلة عبر قنوات الفسق ومهرجانات المجون لن تلتقي أبدا أهدافه مع أهداف الإمام الذي باتت رمزيته مقلقة ولا مع مصالح الساكنة، لذا كان قرار العزل سلاحا من أسلحة المعركة غير العادلة. وقد يكون من بين قراءات المخزن للحدث أنها بداية يقظة يجب وأدها وإعادة الناس إلى السبات بقطع رأس من تمرد على منتوجاته، وكأننا بسفاح الأمة الحجاج بن يوسف الثقفي قائلا: إني أرى رؤوسا أينعت وحان قطافها، هي ذاتها الروح الشريرة للاستبداد المستشرية عبر قرون الانكسار، تعيد إنتاج ذاتها بأشكال متعددة اختلفت باختلاف الأزمنة لكنها ظلت وفية لجوهرها ومضمونها المتكبر المستعبد لإرادة الناس، المصادر لاختياراتهم، المتحكم في مصائرهم.
لن نبالغ في القول أن الواقع المغربي يكذب زيف الشعارات المرفوعة، ويفضح كذب التصريحات الرسمية في ظل استبداد أكبر همه فرض الرقابة والوصاية للتحكم في مختلف مفاصل الحياة، لا إرادة لديه غير تضييق الحصار على كل من حاد عن قاعدته، حصار يصل إلى حد قطع الأرزاق وهو الحال بالنسبة للشيخ سعيد الصديقي.