صحابيات في غزوة بدر

Cover Image for صحابيات في غزوة بدر
نشر بتاريخ

حاز شهر رمضان الفضيل الحسنيين؛ فكما هو شهر العبادة والنفحات الربانية والعطاء الإلهي، هو أيضا شهر الجهاد في سبيل الله تعالى، شهر الفتوحات والانتصارات، شهد غزوات كبرى أثرت في سيرورة التاريخ الإسلامي، كان أولها غزوة بدر الكبرى، التي حدثت في السابع عشر من رمضان في العام الثاني من الهجرة الموافق للثالث من مارس 624 ميلادية، بعد أن سمح الله عز وجل للمسلمين بقتال المشركين في ظل الآية الكريمة: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (1)، فقد كان منهجهم الإعراض عن المشركين وعدم المواجهة. 

شكلت معركة بدر الكبرى يوما من أيام الله الفاصلة بين الحق والباطل حتى سميت بيوم الفرقان، قال تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ (2)، لأن الحق سبحانه وتعالى فرق فيه بين الحق والباطل، وختمه بالنصر المؤزر لنبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين كانوا معه.

ولقد أقر الإسلام مشاركة المرأة في الجهاد بما يناسب وظائفها بعد أن كانت تشارك في الحروب منذ فجر التاريخ وقبل بزوغ شمس الإسلام، كذلك كان دأب القبائل العربية حيث شاركت النساء في المعارك التي كانت تنشب في القدم؛ من أجل شحذ همم الجند وتثبيتهم وتشجيعهم درءا للتخاذل ومنعا للخوف الذي قد يصيب الجند إبان المعركة، وأيضا لمداواة الجرحى والسقي..

وشكلت غزوة بدر الكبرى الشعلة التي أنارت درب الجهاد في صفوف النساء، فإذا كان المهاجرون قد أيدوا رسول الله في قتال المشركين تحت المقالة البليغة للصحابي الجليل المقداد بن عمرو: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ”، وكذلك فعل الأنصار حين ناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته لقتال المشركين على لسان سعد بن معاذ رضي الله عنه حيث قال: “فَوالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ… فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ”، فإن مشاركة النساء في هذه الغزوة كانت مشاركة من نوع خاص بسبب الظروف التي أحاطت بها؛ إذ استعجل النبي صلى الله عليه وسلم الخروج للجهاد حتى يتمكّن من اللحاق بقافلة أبي سفيان، لدرجة أن بعض الرجال لم يستطع التجهز لهذه المعركة ناهيك عن النساء، ثم تحول هذا الخروج من مجرد اعتراض قوافل قريش المُتّجِهة إلى الشام وضمان الرجوع السريع والآمن للمدينة؛ إلى حرب فاصلة فارقة بين جحافل الكفر وجموع المؤمنين بالله الواحد. وقد نتج عن هذا التطور المفاجئ للأحداث غياب المشاركة النسائية المباشرة في ساحة الوغى. هذه الساحات التي ستشهد لهن في باقي الغزوات التي حدثت من بعد غزوة بدر الكبرى، بحضورهن الموسوم بالتضحية والفداء والصبر والمجاهدة، بل والشهادة، بمباركة نبوية شريفة وتأييد إلهي عظيم.

من الأسماء النسائية الساطعة في سماء غزوة بدر الكبرى نجد اسم الصحابية الجليلة أم ورقة رضي الله عنها التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم الخروج مع الجيش تداوي الجرحى وتمرض المرضى لعل الله يكتب لها الشهادة، فكانت بذلك أول امرأة تعرض على النبي أن تخرج معه لعلها تنال الشهادة، وغدت بعد هذه الحادثة تسمى بالشهيدة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد زيارتها اصطحب معه ثلة من أصحابه الكرام، وقال لهم: “انطلقوا بنا نزور الشهيدة”، إلى أن كتب الله لها الشهادة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها أن تؤم أهل دارها وكانت قد استأذنته أن يجعل لها مؤذنا خاصا.

عن الْوَلِيد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُمَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِى جَدَّتِى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَلاَّدٍ الأَنْصَارِىُّ عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ نَوْفَلٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا غَزَا بَدْرًا، قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ يَارَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِى فِى الْغَزْوِ مَعَكَ، أُمَرِّضُ مَرْضَاكُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِى شَهَادَةً. قَالَ: «قِرِّى فِى بَيْتِكِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْزُقُكِ الشَّهَادَةَ». قَالَ: فَكَانَتْ تُسَمَّى الشَّهِيدَةَ. قَالَ: وَكَانَتْ قَدْ قَرَأَتِ الْقُرْآنَ فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَتَّخِذَ فِى دَارِهَا مُؤَذِّنًا، فَأَذِنَ لَهَا (3)، فرتب لها رسول الله مؤذنا يعلمها مواقيت الصلاة.

وما طلبت الخروج إلا لشدة حبها رضي الله عنها للجهاد والشهادة في سبيل الله. 

وعلى غرار أم ورقة رضي الله عنها وأرضاها برز فعل نساء المسلمين في المشاركة في المعركة دفعا بأزواجهن وأبنائهن وإخوانهن كأجل ما تكون المشاركة وأقدسها، إذا ما قيس بميزان دفع الأحبة وفلذات الأكباد لساح الوغى لنيل إحدى الحسنين؛ نصر أو شهادة.

وفي هذا الصدد تكلل اسم الصحابية الجليلة عفراء بنت عبيد بن ثعلبة بالمهابة والجلالة، حيث بعثت بسبعة أبناء هم زهرات فؤادها ومهجة روحها إلى أرض النزال، فنال اثنان منهم الشهادة تاركين أما أصبحت رمزا على مدى الزمان للجهاد والنصرة والفداء؛ هما الشهيدان اللذان قتلا أبا جهل. ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على مصرع ابني عفراء فقال: “رحم الله ابني عفراء فهما شركاء في قتل فرعون هذه الأمة ورأس الكفر” (يقصد بذلك أبا جهل) فقيل: يا رسول الله ومن قتله معهما؟ قال: “الملائكة وابن مسعود قد شارك في قتله” (4).

ولم تكن الصحابية الجليلة الربيع بنت النضر الأنصارية بأقل شأنا من سابقتها وأخواتها المسلمات الضاربات في العطاء والصبر والجهاد، كيف لا وهي والدة الصحابي الجليل سيدنا حارثة بن سراقة أول شهيد في غزوة بدر، حيث ارتقى إلى ربّه رغم حداثة سنه، فقد كانت تأتي النبي وتقول: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء، فقال: “يا أم حارثة إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى” (5). “اكتملت فيها التربية فهي منها فائضة كالنبع الكريم يَجود. اكتمل فيها الوعي وتكامل بين وظيفتها الأمومية، وجهادِها الحركي، وإعدادها القوة للتغيير التاريخي الطويل النفَس” (6).

جاهدت المرأة إذن في عهد النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وجاهدت من بعده في عهد الخلفاء الراشدين والفتوحات الإسلامية، وقفت في وجه الفتن العظيمة والمحن الكبرى التي مرت منها أمتنا. وعلى درب الجهاد والتضحية سارت نساء أمتنا إلى زماننا هذا، حيث لم تحد نساؤه عن النهج ولم تلن، نستحضر المرأة الفلسطينية سيدة الجهاد وفخره، وكل نساء الإسلام في كل أصقاع الأرض؛ العربيات منهن والعجميات، وبطولتهن في الوقوف في وجه الاستكبار العالمي بالتدافع مع الظالمين والجهاد في وجه المحتلين الغاصبين، والله على نصرهن قدير.


(1) سورة الحج، الآية 39.

(2) سورة الأنفال، الآية 41، جاء في تفسير ابن كثي: وقوله: (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ينبه تعالى على نعمته وإحسانه إلى خلقه بما فرق به بين الحق والباطل ببدر، ويسمى “الفرقان”؛ لأن الله تعالى أعلى فيه كلمة الإيمان على كلمة الباطل، وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه. قال علي بن أبي طالب والعوفي، عن ابن عباس: (يوم الفرقان) يوم بدر، فرق الله فيه بين الحق والباطل. رواه الحاكم.

(3) رواها أبو داود في السنن والطبراني في المعجم الكبير بألفاظ قريبة من رواية أبي داود.

(4) رواه البيهقي وابن كثير في البداية والنهاية.

(5) صحيح البخاري.

(6) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، دار لبنان للطبع والنشر – بيروت، ج 2، ص 215.