من الآيات التي نزلت في ظاهرها عامة وهي لها سبب خاص قول الله تعالى في سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنفال: 70].
وسورة الأنفال من السور المدنية التي أَرَّخت لغزوة بدر في أدق تفاصيلها، وأطلعت المسلمين المجاهدين على ما يعتلج في صدورهم وما تتحدث به أنفسهم. كَانَ عُبَادَةُ بْنُ الصامت يقول عنها: “فِينَا مَعْشَرَ أَهْلِ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النّفلِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَانْتَزَعَهُ اللهُ مِنْ أَيْدِينَا حِينَ سَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَرَدّهُ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَسمهُ بيننا عَنْ بَوَاءٍ – يَقُولُ عَلَى السّوَاءِ – وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَقْوَى اللهِ وَطَاعَتُهُ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ” (الروض الأنف).
ومن أهم المواضيع التي تناولتها السورة، ولأول مرة في القرآن؛ مسألة الأنفال ومسألة الأسرى، وبينت حكم الله فيهما. كما وجهت الصحابة لتقوى الله وطاعة الرسول وعدم التشاحن على الدنيا..
ومن فضائل هذه السورة أنها كانت تقرأ على الجيوش قبل الحرب لتثبيتهم وإحلال السكينة عليهم، وهذا ما فعله سيدنا سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية كما تذكر كتب التاريخ.
1- تفسير الآية
جاء في معالم التنزيل للبغوي: “قوله تعالى: يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّمَن فِىۤ أَيْدِيكُم مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ نزلت في العباس بن عبد المطلب وكان أُسر يوم بدر، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر، وكان يوم بدر نوبته، وكان قد خرج بعشرين أوقية من الذهب ليطعم بها الناس، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا وبقيت العشرون أوقية معه، فأُخذتْ منه في الحرب… فذلك قوله تعالى: يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّمَن فِىۤ أَيْدِيكُم مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ، الذين أخذتم منهم الفداء إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً، أي: إيماناً، يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ، من الفداء، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، ذنوبكم وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، قال العباس رضي الله عنه: فأبدلني الله عنها عشرين عبداً كلهم تاجر يضرب بمال كثير وأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم، وما أحبّ أن لي بها جميع أموال مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي عزّ وجلّ”.
2- من الأحاديث الواردة في شأن الآية
عن الزهري عن جماعة سماهم قال: بعثت قريش في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا. وقال العباس: يا رسول الله قد كنت مسلماً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الله أعلم بإسلامك، فإن تكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر”. قال: “ما ذاك عندي يا رسول الله”! قال: “فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم؟” قال: “والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله. إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل. فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني – عشرين أوقية من مال كان معي”! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا. ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك”. ففدى نفسه وبني أخويه وحليفه. فأنزل الله عز وجل: يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم.
3- التعريف بشخصية الآية
جاء عنه في كتاب أسد الغابة: “عباس بْن عبد المطلب بْن هاشم بن عبد مناف بْن قصي بْن كلاب بْن مرة. عم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصنو أبيه، يكنى أبا الفضل، بابنه… وكان أسن من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنتين، وقيل: بثلاث سنين… وكان العباس في الجاهلية رئيسًا في قريش، وَإِليه كانت عمارة المسجد الحرام والسقاية في الجاهلية، أما السقاية فمعروفة، وأما عمارة المسجد الحرام فإنه كان لا يدع أحدًا يسب في المسجد الحرام، ولا يقول فيه هجرًا لا يستطيعون لذلك امتناعًا، لأن ملأ قريش كانوا قد اجتمعوا وتعاقدوا عَلَى ذلك، فكانوا له أعوانًا عليه”.
– من مناقبه رضي الله عنه: عَنِ ابْنِ شِهابٍ قَالَ: كان أَبو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في وِلَايَتِهِمَا لَا يَلْقَى الْعَبّاسُ مِنْهُما وَاحِداً وَهُوَ راكِبٌ إِلاّ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَقَادَهَا، وَمَشَى مَعَ الْعَبّاسِ حَتّى بَلَّغَهُ مَنْزِلَهُ أَوْ مَجْلِسَهُ فَيُفَارِقَهُ.
عَنْ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الحَارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ أَنَّ العَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُغْضَبًا وَأَنَا عِنْدَهُ فَقَالَ: «مَا أَغْضَبَكَ»؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا وَلِقُرَيْشٍ، إِذَا تَلَاقَوْا بَيْنَهُمْ تَلَاقَوْا بِوُجُوهٍ مُبْشَرَةٍ، وَإِذَا لَقُونَا لَقُونَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُلٍ الإِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ آذَى عَمِّي فَقَدْ آذَانِي فَإِنَّمَا عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» (1).
– شجاعته رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الطَّائِفِ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّبِيعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَهْلِ الطَّائِفِ يُكَلِّمُهُمْ، فَاحْتَمَلُوهُ لِيُدْخِلُوهُ حِصْنَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ لِهَؤُلاءِ؟ وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ غَزَاتِنَا هَذِهِ»، فَلَمْ يَقُمْ إِلَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ فِي أَيْدِيهِمْ قَدْ كَادُوا أَنْ يُدْخِلُوهُ فِي الْحِصْنِ، فاحتضنَهُ العباسُ وكانَ رجلاً شديداً فَاخْتَطَفَهُ مِنْ أَيْدِيهِمِ، وَأَمْطَرُوا عَلَى الْعَبَّاسِ الْحِجَارَةَ مِنَ الْحِصْنِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو لَهُ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ” (2).
– سداد رأيه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة الثانية “وكان لا يزال على دين قومه، إلاَّ أنَّه أحب أن يشهد البيعة ويأخذ العهد والأزمان لابن أخيه، فلمَّا جلس الرسول عليه الصلاة والسلام كان أوَّل متكلم هو العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الأوس والخزرج، إن محمداً مِنَّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا مِمَّن هم على مثل رأينا فيه، فهو في عزٍ من قومه، ومنعة في بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنَّكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه مِمَّن خالفه، فأنتم وما تحمَّلتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنَّكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكـم، فمن الآن فدعوه فإنه في عزٍ ومنعة من قومه وبلده. فردَّ عليه أهل يثرب بقولهـم: قد سمعنا ما قلت، فتكلَّم يا رسول الله فخُذ لنفسك وربك ما أحببت” (3).
– ومن أشهر الأحاديث المروية عن سيدنا العباس: عَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: «سَلِ اللَّهَ العَافِيَةَ»، فَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ، فَقَالَ لِي: «يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ، سَلِ اللَّهَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» (4).
4- مما يستفاد من الآية ومما جاء في الأحاديث المرتبطة بها
– أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بعمه العباس في العقبة الثانية رغم كفره لثقته به وسداد رأيه.
– أن رسول الله لم يميز عمه على غيره من الأسرى بشيء رغم حبه له ومعرفة أنه إنما خرج للحرب مكرها، فأخذ منه الفداء كاملا عنه وعمن يليه: ابني أخيه وحليفه.
– وختاما أن الله لا يضيع عمل من أحسن عملا، فقد عوض العباس عما أخذ منه خيرا منه كما ذكر ذلك العباس نفسه.
(1) عبد السلام ياسين، شعب الإيمان 1/37.
(2) نفسه، 1/370.
(3) صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، ص 175.
(4) شعب الإيمان، م س، 1/228.