شبكات الاختراق المدني في ضوء تقرير راند 2007م (3/3)

Cover Image for شبكات الاختراق المدني في ضوء تقرير راند 2007م (3/3)
نشر بتاريخ

خلخلة مناخ القيم

ولتسهيل عملية استقطاب الجمعيات وخلق شبكات التواصل التي تخدم مخططات قوى الاستكبار العالمي، فإن معظم الجهود الأمريكية تنصب على تعزيز الظروف المهيئة للتعددية والتسامح، والملائمة لنمو شكل جديد من المنظمات والجمعيات، من خلال ما يسمى بالديبلوماسية العلنية، التي تشتغل في صمت وفي واضحة النهار وبرؤية بعيدة المدى، تنضج ثمارها بروية عبر الأجيال، وهي عملية تحويل ممنهجة تقوم باختراق البيئات الاجتماعية الإسلامية المحافظة ثقافيا وفكريا عبر وسائل الإعلام المسموع والمرئي 1 وعبر الصحافة الورقية والإلكترونية التي تتصف بالمستقلة وعبر المناهج التعليمية والدراسية وعبر بعض المهرجانات والأنشطة الدورية القارة، ثم عبر بعض النخب والمثقفين الذين يتم استقطابهم وإعدادهم وتكوينهم، بل واختيار الأشخاص البارزين منهم، الذين يتمتعون بمصداقية كبيرة لشغل المناصب القيادية في شبكات ومنظمات المجتمع المدني 2. ويأتي التركيز على خلخلة المرتكزات الفكرية والثقافية للدول الإسلامية بحجة محاربة الإرهاب والفكر المتشدد، كمدخل لتقويض الأسس العقدية للأمة، عبر تمييع مناخ القيم، ببث مسحة من الثقافة الغربية المتحررة من كل القيود، ونشر الفكر الإلحادي المقنع بحجج العقلانية والحرية وحقوق الإنسان. فرغم أن الكلفة المادية لمثل هذه المخططات تكون باهظة الثمن وتثقل كاهل الولايات المتحدة الأمريكية بالأساس، ورغم أن النتائج لا تكون في الغالب مرضية، مع العلم أن ثمارها الخبيثة تنمو بروية وتحتاج لطول نفس، إلا أن القرار الأمريكي أيد الاستمرار في نهج ما خطته وأعدته معاهد الدراسات والخبرة وما خلصت إليه التقارير الاستخباراتية، عن علم ودراية بما ينتظرها من نتائج قد تكون غير مرضية، لذلك انتهجت ما يسمى برأس المال المخاطر، في دعمها وتمويلها لهذه المخططات.

قد يكون مآل بعض المشاريع هو الفشل، “ومن الممكن أن تستهلك مقادير كبيرة جدا من الموارد دون إحداث أي تأثير ذي بال، أو دون تأثير على الاطلاق” 3 خاصة وأن آليات التنفيذ تحتكم إلى ضوابط من الاستقلالية والحرية في التنفيذ، خاصة في المستويات المحلية، وبالتالي قد تكون وسائل الاختراق المفترضة من شبكات للتواصل ومنظمات غير حكومية وجمعيات، غير فعالة، خاصة إن كانت قابلة للتغير والتأقلم انسجاما مع الروح السائدة التي يحملها الأطر المشتغلة في المشروع، خاصة إن كان لهذه المشاريع طابع نخبوي وموسمي، لا تتفاعل بالاحتكاك المباشر مع الناس، مما يجعل تأثيرها خافتا ومحصورا في فئة معينة من الناس. لكن ومع ذلك يبقى خطرها الأكبر وتأثيرها المحتمل هو فيما يصدر منها وما تفرزه وما تبثه في المجتمع من منظمات وجمعيات أخرى شعبية يكون لها احتكاك مباشر بالناس في الأحياء الشعبية والقرى، مروجة بذلك لنمط معين من الممارسة الاجتماعية والأعمال التطوعية التي تستلهم أفكارا مغتربة وممارسات هجينة في وسط اجتماعي محافظ. ليتم التطبيع مع هذه الأشكال المستوردة من الجمعيات التي تتبنى قضايا جريئة، ليس في علاقتها بالسلطة الحاكمة والاستبداد، إنما في نقدها للدين الإسلامي وتدجين العقول اليافعة من الشباب بممارسات وسلوكيات متحررة تمتح من أصول لا أخلاقية تناقض روح الإسلام السائدة وتقوضه، قاصدة حجب الحياء المنسدل في فضاءات المجتمعات المحافظة.

استقلالية مقنعة

وحتى تحظى هذه المنظومة من الجمعيات المرتبطة بأجندات موجهة، بنوع من المصداقية والثقة في المجتمع المدني المحلي فإن الإدارة الأمريكية تحرص على خلق نوع من التمايز والانفصال التنظيمي عنها، بحيث يصعب التمييز بين الإطارات المجتمعية التي تخدم الصالح العام وبين التي تتبنى المخططات الأمريكية بشكل مباشر، بحيث يصعب إثبات نوايا ومآرب الجمعيات العميلة، وذلك لاشتغالها واحتكامها للقوانين والأعراف الإدارية المعمول بها، ولمزجها بين ما هو متداول من الأنشطة والبرامج وبين ما يحقق أهدافها الاستراتيجية في تمازج مدروس بعناية. “فقد آمنت وكالة الاستخبارات المركزية بأن منظمات بناء الشبكات تصير أشد فعالية حين تتمتع بأكبر قدر ممكن من الاستقلالية” 4، فيتم توجيه جمعيات الاختراق والمنظمات العميلة لتلعب أدوارا دقيقة في مجتمعاتها، بشكل مستقل وبإيعاز من الإدارة الأمريكية حتى تضمن تطورها الطبيعي ونموها السليم واندماجها السلس في المجتمع المدني، بل ويسمح لهذه المنظمات من أن تعارض السياسات الأمريكية وأن تسجل مواقف وتبرز استقلاليتها وتميزها وقوتها من خلال مناهضتها لقوى الاستكبار العالمي، في واجهة مقنعة خبيثة يصعب فضحها وإيضاح حقيقتها إلا بعمل استخباراتي مضاد. لذلك تسعى الولايات المتحدة الأمريكية والمخابرات الغربية، البريطانية والفرنسية على ألا يتم أي تواصل مباشر بينها وبين الجهات المعنية بالاختراق والتوجيه والتفتيت، من المنظمات والجماعات الإسلامية وغيرها، لعلمها ومعرفتها بلا جدوى التدخلات المباشرة في القضايا المحلية لدول أخرى، ولتجنب ردود الفعل الشعبية حيال ذلك، والتي لن تقبل أي وصاية مباشرة على شؤونها الداخلية وإن كانت موجهة لعدو داخلي منبوذ. لذلك تفضل الاستخبارات الغربية عامة نهج مقاربة الاحتواء ومجابهة “الخطر الإسلامي” المتنامي من الداخل وبوسائل داخل البلد المعني، وبآليات من صميم ما هو متداول ومتعارف عليه. فإنشاء جمعيات ومنظمات بحمولة مغربة وبمشروع موجه كفيل بأن يسمح بتدفق الأفكار في قلب البيئة الاجتماعية وبتداولها واندماجها في المخيال الجمعي للشعوب حتى يتم التطبيع معها بشكل سلس دون مقاومة تفضح أصحاب المخططات.

فنضج تجربة جمعيات الاختراق وخبرتها ومستوى تدريب أطرها يجعلها في حال من تبني المخططات وتنزيلها بشكل آلي مباشر مفضوح، فتعمل هذه الجمعيات على تقعيد أفكارها وتنزيلها بشكل يلائم الوسط الثقافي والبيئة الاجتماعية الذي تشتغل من خلاله، وببرامج ومشاريع من وحي أطر الجمعية بشكل مستقل بعد أن غدا كل واحد منهم مشروعا في حد ذاته يحمل أفكارها ويدافع عنها.

قد تكون من بين الأهداف المضمرة في هذه الخطط المعلنة التي تروم اختراق المجتمعات العربية والإسلامية هو تقويض وهدم أركان الثقة المتبقية بين الشعوب وزرع فتيل التشكيك في منظومة المجتمع المدني برمتها، من جمعيات ومنظمات مدنية خيرية واجتماعية بعد أن فقدت الشعوب الثقة في الحاكمين ومؤسسات الدولة قبل ذلك. وهو هدف وارد وإن لم يصرح به، لتفاهته في سلم من يحاكي في خططه موضوعات أخطر وأكبر، كتمييع القيم ورعاية الفساد والإفساد وتخريب الإسلام من أصوله بشكل واضح ومعلن واختراق المجتمعات قصد تشتيت الأمة الإسلامية وتقسيمها وتفتيت المفتت منها. غير أن معرفة الأشياء خير من جهلها. معرفة توسع أفق الإدراك لدينا وتوجه معالم التفكير وترسم مسارا مستقبليا لخطوات البناء التي لا تغفل في طياتها نظرة التدبير المضاد والتخطيط الممنهج والاختراق الموجه ممن لا يتردد في الإعلان عن خططه ومؤامراته، لا لشيء إلا لعلمه أن الأمة العربية والإسلامية في جميع الأحوال هي أمة لا تقرأ 5.


[1] في مقدمة هذه الوسائل تأتي راديو “سوا” والقناة الفضائية “الحرة”، انظر تقرير بناء شبكات الاعتدال الإسلامي، ص26
[2] بناء شبكات الاعتدال الإسلامي، سلسلة تقارير مؤسسة راند 2007
[3] نفس المصدر
[4] نفس المصدر
[5] “حتى أولئك الذين يتصايحون للتحذير من مخططات الأعداء، يفعلون ذلك بناءً على أوهام يتخيلونها وأساطير يتداولونها، وليس على أساس معرفي علمي. لذلك، يحبذ الخبراء الصهاينة نشر استراتيجياتهم المستقبلية علنًا لتوعية أكبر عدد ممكن من اليهود والإسرائيليين بها، دون أدنى قلق من اطلاع العرب عليها، فإمكانية تصدي حكوماتهم لتلك الخطط إزاء معرفتهم بها شبه معدومة”.إسرائيل شاحاك، المحلل السياسي الإسرائيلي والأستاذ بالجامعة العبرية – القدس – رئيس الرابطة الإسرائيلية لحقوق  الإنسان