تعلو اليوم صرخات شباب أحبوا هذا الوطن بصدق؛ لا يطلبون صورا براقة ولا انتصارات عابرة، بل يطالبون أن تتحول بوصلة القرار من تلميع الواجهة والارتهان للمشهد الكروي ومواسم اللهو المشاع، إلى تفكير استراتيجي يثمر إصلاحات عميقة تضمن الكفاية والحريات والعدالة الاجتماعية، ليحيا الجميع في ظلها بعزة وكرامة.
صرخات من جيل لم يعد يقبل أن يكون رقما في تقارير أو ديكورا في احتفالات، بل محركا حقيقيا للتنمية ومشاركا في صناعتها، إنه جيل واع بحقوقه، متمسك بوجوده، واثق من قدرته على انتزاع مكانه في وطن يستحقه بامتياز، جيل لا تعد مطالبه نزقا عاطفيا، بل مرتكزها تصوّر متماسك لسياسة الدولة، قاعدته العدالة والحرية وكرامة الإنسان.
من التجميل إلى التأسيس
من الضروري أن تشع الدولة في مجالات متنوعة تعود بالنفع على الوطن والمواطنين، وتفتح الأوراش لتحقيق التنمية، لكن الانشغال المفرط بالشكل يستهلك موارد ووقتا كان من الأجدر أن يستعملوا في تحقيق الجوهر لا تلميع المظهر، بل كان من المفروض أن يكون الإشعاع مسبوقا بالانخراط في هذه الأوراش: مدرسة عادلة تضمن التربية والتعليم في ظروف مواتية وبمناهج راقية تؤهل المتعلم للانخراط في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، مستشفى جدير بالثقة يضمن الصحة لكل المواطنين، نقل عمومي كريم، عناية بكل ربوع الوطن حواضره وبواديه، وسوق عمل يفتح الأبواب أمام الشباب للانخراط في أوراش الوطن ولا يدفع بهم إلى البحر ليصيروا لقمة سائغة للحيتان البشرية المتاجرة في خصاصهم، والمائية الملتهمة لأجسادهم.
حينما تصبح الأولوية للتصوير بدل التغيير، نخسر أثمن ما نملك: ثقة الإنسان، لأن الثقة لا تصنعها الأضواء، بل تصنعها مؤسسات تنصت وتعمل وتراقب وتحاسَب.
الشباب أولا
ليس لأنهم ضجيج اللحظة، وصرخة الحال، بل لأنهم رأس المال الاجتماعي والمعرفي الذي لا يعوض، والاستثمار فيهم ليس منّة، بل ضمانة استقرار ونمو، كل شاب يجد فرصة تعلم وصحة وعمل هو حاجز إضافي ضد اليأس والتطرف وهروب الكفاءات وهجرة الأدمغة، وكل سياسة تقمع صوته الحر تفتح، بقصد أو بدون قصد، أبواب الهجرة القسرية واليأس والموت. الصوت الذي يخفت اليوم لا يخبو إلا ليعود أشد غضبا وكرها، والصوت الذي يُحترم وينصت إليه يعود غدا حبا للوطن والتزاما بخدمته والفناء من أجل عزته.
إن فتح قنوات المشاركة الشبابية وتمكينهم ضرورة استقرار وليست أبدا ترفا فكريا.
معادلة الدولة القوية والمجتمع الحر
ليست الدولة القوية التي ترفع الصوت ولا السوط على مواطنيها، بل التي ترفع مواطنيها إلى مستوى الكفاية والحرية والكرامة الإنسانية. والمجتمع الحر ليس الذي ينفلت من كل قيد، بل الذي يقبل القانون العادل ويشارك في صناعته ويراقب تطبيقه. بين الطرفين جسر اسمه العقد الاجتماعي حيث الحقوق واضحة، والواجبات محددة، والحكومة المسؤولة تشتغل بمعايير الكفاءة لا بولاءات ضيقة، والحكامة الوازنة لا مكان فيها للفاسد المعظم ولا “للص” المحترم.
حين يتعنت المسؤولون، لا يزداد الشباب إلا صمودا في ميادين المطالب المشروعة، وحين تنفتح قنوات الحوار والاهتمام، يتدفق الذكاء الجماعي إلى مسارات البناء.
مطالب مجتمعية ملحة
لم يطالب المحتجون بالمستحيل، بل ظلت مطالبهم محصورة في إطارات ممكنة، ولا يجد المتتبع صعوبة في حصرها في التالي:
• أولوية الجوهر على الواجهة: تحويل جزء محسوس من الإنفاق من المظاهر إلى الخدمات الأساسية، وهذا مطلب معقول خاصة إذا قرن بتقارير شفافة تجلي المصرف الرشيد وأثر الإنفاق في تحقيق التنمية المستدامة.
• تعليم قوي ومجاني: من خلال مراجعة المناهج لتحقيق مهارات جيدة صالحة لممارسة مهنية مميزة وذكاء اجتماعي متقدم والريادة في الأعمال، مع تكوين مهني مؤهل لسوق الشغل.
• صحة عمومية متاحة تليق بكرامة المواطن: وهذا لن يكون إلا بتعزيز الرعاية الطبية للجميع، وخفض الكلفة وتقليص مواعيد الانتظار.
• اقتصاد يفتح الأبواب: من خلال خلق فرص شغل للشباب، واحتضان المشاريع الناشئة، وتحسين الأجور والتقاعد، ومحاربة الاحتكار، وتخفيض الأسعار، ودعم المقاولات الوطنية، والحد من الخوصصة، وتسديد القروض الدولية.
• حياة اجتماعية ملائمة: تيسر سبل الحياة الكريمة والسكن اللائق والنقل العمومي الجيد، وتخفف من وطأة الظروف الاجتماعية القاسية التي يكتوي تحت نيرها المواطن، وفك العزلة عن القرى وعن المغرب المنسي، وتوفير الماء وترميم البنية التحتية.
• عدالة مستقلة وفعالة: عبر قضاء يحمي الحقوق لا النفوذ، ومساطر واضحة لا محاباة فيها ولا جنوح، وولوج مساواتي أمام القانون؛ إذ لا تنمية بلا ثقة، ولا ثقة بلا عدالة.
• حكامة تحارب الفساد والاستبداد والتبعية: ولن يتحقق هذا المطلب إلا بهيئات رقابة مستقلة ذات صلاحيات فعلية، مع ربط المسؤولية بالمحاسبة فعلا لا شعارا، وضمان نزاهة الانتخابات وشفافية المال العام، والتخلص من التبعية للخارج.
• فضاء عام واسع الصدر: يضمن حرية التعبير والإعلام، ويقبل بالاحتجاج السلمي باعتباره وسيلة ديمقراطية، وبالحوار المسؤول الذي يعبر عن قوة سياسة الدولة وثقتها بنفسها.
من لغة القوة إلى قوة اللغة، وبوصلة تضع الإنسان في قلب التهمم
العنف ضد الأصوات الحرة لا يبني دولة، بل يوسع المسافة بين الحاكم والمحكوم. أقوى الدول هي التي تحسن الإصغاء وتستبق الأزمات بالحوار لا بالقمع.
حين نعيد توجيه البوصلة نحو الإنسان، تصبح كل الأوراش المفتوحة قيمة صحية وتربوية وعلمية… لا ستارا يغطّي عيوبنا، وتغدو الثقافة فضاء لتعدد الأصوات لا لاحتكار الرواية الواحدة. السياسات التي تضع الإنسان في قلبها، تصنع مواطنا مطمئنا ينتج بإبداع ويشارك بتميز.
نداء مسؤول
كل محاولة لتعميق الأزمة من خلال إسكات الأصوات بعصي القهر و”الحكرة” لا تزيد الهوة إلا اتساعا، والزمن وحده لا يحل المعضلات، ولا ضيق الشعوب وقلة ذات يدها تحلهما “التعزيمات” الإعلامية والأوهام الخاسرة، ولا توزيع الابتسامات والصور الجذابة تنسي وجه الحقيقة العبوس القمطرير. الذي يحل الإشكالات إرادة سياسية صادقة، وبرامج قابلة للقياس، وجرأة على الاعتراف بالأخطاء وتصحيحها، وتحرك جاد لمحاربة الفساد، وعهد متبادل بين شباب منظم سلمي مبادر ودولة منفتحة عادلة وفاعلة. عندئذ فقط يصبح الحلم ممكنا، ويصير الوطن مرآة أهله لا واجهته اللامعة المروج لها بجسارة منقطعة النظير.