لن يكون غريبا على من تربى داخل قصر فرعون أن يكون خبيرا ببطش اليد التي لا تعرف حدودا للتجبر، فقد مارس الطغيان بكل عنفوانه على مواليد ما زالت قلوب أمهاتهم تصرخ من الكمد، وقتل وعذب وحبس وراكم السواد في سماء مصر. وما إن ألقت أم موسى بالتابوت في اليم، حتى جعل الله تلك اللحظة منعطف اللطف على أمة أنهكت بالكامل.. لم يكن يعلم أحد أن آسية زوجة فرعون ستحتضن النبوة في مهدها، وتجعل من وجودها في القصر ذرعا حامية لمن سيختاره الله نبيا مرسلا؛ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]. ولم يكن يعلم فرعون نفسه أنه يعجل لنفسه بالزوال عندما ركن إلى وزيره هامان يزين له العلو في الأرض ويعظم له سطوته على شعب مقهور لا حول ولا قوة له.
وعندما شب الفتى، وقتل رجلًا من آل فرعون بالخطأ، قال الله عنه: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص: 18]، ولما اضطر إلى الهرب، فخرج من المدينة وصفه الله مجدَّدًا بقوله: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص: 2].
هذا التصنيف بالخوف هو ضعف يعتري القلب البشري الباحث عن اليقين الذي سيجده سيدنا موسى في ثنايا رحلة مدين بعد لقاء الفتاتين. علامة من علامات صنع الله بعد رحلة التابوت. فرار من قدر الله إلى قدر الله.
فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍۢ فَقِيرٌ [القصص: 24].
لم ينتظر مقابلا من الفتاتين، المهم أنه سقى لهما، واطمأن إلى سلامتهما وإلى وفرة نصيبهما الذي رجعتا به إلى والدهما دون عناء.. كانت عناية ربانية أن قدر الله تحقق هذا المشهد بكل تفاصيله العجيبة.. “الظل”.. كما هو الحال عند كبار الأخفياء الأتقياء.. يكفي أن الله يعرف أنك سبب السقيا والبقية تأتي مدهشة.. الله هو من ترفع له أكف الافتقار، ومنه وحده يأتي المدد، فيشق لك في بحر الحياة الهائج طريقا من المستحيل، لا يقتحمها إلا يقينك في أن “رحمة الله قريب من المحسنين”.
في خدمة أهله التمس نارا تحولت نورا ثم صب الله في قلبه أمنا وأمانا.
أتاه برهان من الله ساطع؛ إنها عصا اليقين. عصا تحولت فيما بعد وبإذن الله إلى أفعى تتلقف ما يأفكون بعدما أخرجت بشريته الخائفة من عمق الطين لتصيرها يقينا ناطقا..
قال تعالى: وَأَلْقِ عَصَاكَ ۚ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ [النمل: 10].
“لا تخف”.. كلمة فصل ولحظة فاصلة، سيتشرب فيها سيدنا موسى اليقين، وسيشهد معية الله، خاصة بعدما أيده بأخيه سيدنا هارون عليه السلام، ليجعل في صحبته انطلاقة لسان وفصاحة بيان وقوة ومددا لا يغلبان.
يدرك الخوف أمته وهم يفرون فرارهم الجماعي من ملاحقة فرعون وجنده، ثم ينطق يقينه مجددا: إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 12].
ثم يغرق فرعون ومن معه ويتخذه الله آية لمن بعده.. آية في هذا الصراع بين الخوف واليقين.. بين الكينونة بنفسك والكينونة بالله عز وجل.
خرج سيدنا موسى عليه السلام من طور سيناء نبيا، بل كليم الله. وأجرى الله على يديه سنن اليقين اقتحاما لبحر التوحيد، وخلاصا لأمة رأت موعود الله فاتبعته غير مولية؛ نصرت الحق فانتصرت به.