سيدنا محمد.. نور الله إلى خلقه

Cover Image for سيدنا محمد.. نور الله إلى خلقه
نشر بتاريخ

يقول مولانا عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (سورة المائدة، آية 15).

قال أبو جعفر الطبري في تفسيره لهذه الآية: يقول جل ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب “قد جاءكم ” يا أهل التوراة والإنجيل “من الله نور “، يعني بالنور، محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحقَّ، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به يبيِّن الحق. ومن إنارته الحق؛ تبيينُه لليهود كثيرًا مما كانوا يخفون من الكتاب.

كان صلى الله عليه وسلم نورا ينير طريق القلوب لتسلك إلى حضرة الملك القدوس…

كان نورا يُطمئن النفوس، ويشعرها بالأمن والأمان…

عجبا لمن يظن أن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم حينما أتى إلى هذه الدنيا، أتى كأي واحد من عامة الناس، فعن  سيدنا خالد بن معدان رضي الله عنه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: (دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام) (1).

مجرد الحمل به أنبأ عن نور عظيم ينير الدنيا، فهل يكون ميلاده كميلاد أي أحد من بني آدم؟

كان الحمل به نورا، ومولده نورا، ومبعثه نورا، وهجرته نورا، وحضوره نورا…

كان نورا ما مثله نور…

قال سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه: “ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجرى في وجهه” (2)  وقال رضي الله عنه: “وإذا ضحك يتلألأ في الجدر…” (3).

وعن سيدنا جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: “رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم  في ليلة إِضحِيان (مضيئة مقمرة لا غيم فيها) وعليه حُلَّة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر” (4) قال له رجل: كان وجهه صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟  فقال: لا بل مثل الشمس والقمر، وكان مستديرا..” (5).

وقال سيدنا كعب بن مالك رضي الله عنه: “وكان إذا سُرَّ استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر” (6).

وفى حديث ابن أبي هالة رضي الله عنه  في وصف خير الأنام عليه الصلاة والسلام قال:  “يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر…” (7).

وعن أبي عبيدة قال: قلت للربيع بنت معوذ رضي الله عنها: صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: “لو رأيته لقلت الشمس طالعة” (8).

عزّ عليهم الوصف من وهج نوره، فلم يجدوا له شبها إلا الشمس والقمر.

هلّ صلى الله عليه وسلم عليهم قبل بعثته فسموه الصادق الأمين، احترموه وقدروه لكن آنيتهم لم تكن بعد صافية لترى النور المشع منه، وبعد بعثته أطل عليهم فوجد قلوبهم عطشى لنور الله،  قد خيم عليها غيم ظلمة البعد والغفلة دهرا، فما زال بها يسقيها حتى ارتوت، ويرعاها حتى استوت، ويجلو مرآتها حتى أضحت حساسا يستشعر النور العظيم الذي يحمله هذا النبي الكريم.

من مخلوقات الله من لديها من آليات الاستشعار، ما به عرفت وجود الأنوار، قبل ليلة الغار، فتأدبت وسلمت على المختار، منها دواب وأحجار وأشجار…

هذا النور المشع المنبعث من القلب الشريف، المطل على الناس من منصة المحيا المنيف، كان بلسما للأدواء، وروحا وريحانا ووصفة مجربة للشفاء، جربها الصحب الكرام الأتقياء، فاستنارت قلوبهم ودروبهم ومدينتهم بوجود نوره الوضاء، وأظلمت مدينتهم ودروبهم وتغيرت قلوبهم بعدما غادرهم صلى الله عليه وسلم إلى دار البقاء.

 ولد الهدى فالكائنات ضياء ** وفم الزمان تبسم وثناء

الروح والملأ الملائك حوله ** للدين والدنيا به بشراء

والعرش يزهو والحظيرة تزدهي ** والمنتهى والسدرة العصماء

ظهرت عليهم بركات الصحبة جلية، فاستقام ظاهرهم وباطنهم، واستوى سرهم وعلانيتهم، وانقشعت غيوم الغفلة عن القلوب فأبصرت نور الله المنبعث من الذات الشريفة للمحبوب الأعظم سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ليس نورا معنويا يحسونه بسبب محبتهم إياه، ولكنه نور مادي حقيقي تستشعره القلوب ليلا ونهارا، وتراه الأعين جهارا، فلا شموس تحجبه ولا أقمارا.

 قال سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه متحدثا عن هذا الأمر، كاشفا مكنونات القلب والسر: “لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء. ولما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا” (9). دخوله إلى المدينة أضاءها وخروجه منها أظلمها.. وكذلك دخوله وخروجه من القلوب. فاحرص -يا أخي- إن دخل قلبك ألا يخرج منه.

وصدق مولانا سبحانه وتعالى إذ يقول لحبيبه صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا  (سورة الأحزاب، الآيتان 45 – 46).

سراج وأي سراج…

فاللهم صل على سيدنا محمد في الأولين، وصل عليه في الآخرين، وصل عليه إلى يوم الدين. آمين.


(1) رواه ابن إسحاق بسنده (1/166 سيرة ابن هشام) ومن طريقه أخرجه الطبري في تفسيره (1/566)، والحاكم في مستدركه (2/600) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وانظر السلسلة الصحيحة (1545).

(2) رواه الترمذي.

(3) رواه البزار والبيهقي.

(4) رواه الترمذي والدارمي والبيهقي.

(5) رواه مسلم.

(6) رواه البخاري.

(7) رواه الترمذي والبيهقي.

(8) رواه الدارمي والبيهقي والطبراني وأبو نعيم (وأبو عبيدة هو أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر).

(9) رواه الترمذي.  وقال هذا حديث غريب صحيح.