سورة الإسراء وخارطة الطريق المعرفية للتحرير

Cover Image for سورة الإسراء وخارطة الطريق المعرفية للتحرير
نشر بتاريخ

الدراسة المعمقة للسيرة النبوية الشريفة، تكشف لنا أربعة أركان رئيسة لما أسميته “ثقافة بيت المقدس في المدينة المنورة”، والتي منها: قراءة سورة الإسراء كل ليلة، ضمن الإعداد المعرفي في الخطة النبوية الاستراتيجية لفتح بيت المقدس ومسجده الأقصى المبارك. فلقد روى الترمذي (3405) عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر، وبني إسرائيل (الإسراء)”، ولقد صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.

ولا شك أن هذا الهدى النبوي الشريف في قراءة سورة الإسراء كل ليلة قبل النوم ومواظبته عليها صلى الله عليه وآله سلم، لحكمة نبوية بالغة ضمن إعداد الأمة معرفياً وربطها بالأرض المقدسة (بيت المقدس) في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. فسورة الإسراء “قلب القرآن” – والتي تختم ببشارة عظيمة “وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا” (الإسراء: 111) – منهاج متكامل لحياة المسلم الذي يستعد لتحرير الأرض المقدسة المباركة، سواء كان هذا في زمن الرسول صلى الله عليه وآله سلم أو في زماننا الحالي. فالسورة تبث في المسلم الأمل وتبشره بالنصر والتمكين، وتزيد من يقينه بتحقيق وعد الله “الفتاح العليم” الذي لا مراء فيه ولا جدال، وهو واقع لا محالة، طال الوقت أم قصر.

كما أن السورة لا تتحدث وتربط بين الماضي والحاضر والمستقبل فقط، بل وتستشرف المستقبل، وترسم – كذلك – معالم الانبعاث الإسلامي العالمي، وطريق الوصول للعالمية، وتوضح آثار الموقع الفريد للأرض المقدسة (بيت المقدس) على بقية أنحاء العالم في الإطارين التاريخي والمعاصر وكذلك في الإطار المستقبلي، من حيث كونه مركز البركة والأمل والتغيير العالمي ليس في الأرض المقدسة (بيت المقدس) فحسب بل في العالم بأسره.

فالآية الأولى في صدر سورة الإسراء – التي افتتحت بالتسبيح “سبحان الذي أسرى” واختتمت بالتكبير “وكبره تكبيرا”- رسمت للمسلمين المستضعفين في مكة طريق الوصول للعالمية، وأوضحت لهم آثار الموقع الفريد للأرض المقدسة (بيت المقدس) على بقية أنحاء العالم في الإطارين التاريخي والمعاصر والمستقبلي. كما أن سورة الإسراء لا تتحدث فقط عن التحرير القادم للأرض المقدسة ومسجدها الأقصى المبارك، بل ترسم – كذلك – معالم الانبعاث الإسلامي العالمي الثاني، وانطلاق الفتح الإسلامي العالمي القادم، وأستاذية العالم من الأرض المقدسة (بيت المقدس).

فرحلة الإسراء كانت بالفعل بداية العالمية الأولى لرسالة الإسلام، ونقطة تحول فاصلة، والخطوة الأولى نحو تغيير الواقع ليس في الأرض المقدسة (بيت المقدس) فحسب بل في العالم بأسره. وهذا ما سيحدث بإذن الله بعد التحرير القادم للأرض المقدسة (بيت المقدس). فلن يتوقف الأمر عند التحرير القادم لبيت المقدس وزوال الاحتلال الصهيوني، واختفاء دولته من الخارطة السياسية للمنطقة في السنوات القليلة القادمة، بل سيصبح هذا التحرير القادم، نقطة التحول الفاصلة في التاريخ المستقبلي بشكل عام، وفي تاريخ المسلمين المستقبلي بشكل خاص، حيث سيتم إعادة رسم الخارطة السياسية والجيوبولتيكية لمنطقتنا خلال العقدين الثاني والثالث من القرن الحادي والعشرين، وسيبرز المسلمون كقوة حقيقية ولاعب مؤثر على الساحة الدولية.

ومن “مركز البركة” الأرض المقدسة (بيت المقدس)، سنكمل العمل في صناعة التاريخ المستقبلي لبيت المقدس بشكل خاص، والتاريخ المستقبلي بشكل عام، لينطلق الفتح الإسلامي العالمي القادم، ونصل إلى أستاذية العالم من الأرض المقدسة (بيت المقدس). فمن الأرض المقدسة المباركة (بيت المقدس) سينطلق الانبعاث الإسلامي العالمي الثاني والفتوحات الإسلامية العالمية الثانية، لتشرق شمس الإسلام والرحمة للعالمين على العالم مرة أخرى. فهذا وعد الله تبارك وتعالى، وبشارة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما يؤكده لنا دراسة التاريخ وحركته لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (الروم: 4-7).

فخارطة الطريق المعرفية في صدر وخاتمة سورة الإسراء، ترسم للأمة المسلمة ثلاث خطوات/مراحل مستقبلية مهمة: إساءة وجه بني إسرائيل، ودخول المحررين من الأمة المسلمة للمسجد الأقصى المبارك – كما دخله الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتح الأول يوم الجمعة 4 جمادى الثانية 16 هجرية الموافق 4/7/637، الذي كان تتويجاً للخطة النبوية الاستراتيجية التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسم خارطتها السياسية والجيوبولتيكية – وتتبير المحررين من الأمة المسلمة لعلو بني إسرائيل. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (سورة الإسراء: 7). فمرحلة إساءة وجه بني إسرائيل، التي تسبق دخول الفاتحين للمسجد الأقصى المبارك، وتسبق تتبيرهم لعلو بني إسرائيل في الآية الكريمة، توضح للأمة المسلمة أن المرحلة المستقبلية الأولى لتحرير الأرض المقدسة (بيت المقدس) ومسجدها الأقصى المبارك، هي مرحلة إساءة وجه بني إسرائيل والمشروع الذي يمثله الكيان الصهيوني عالمياً، وفضح الوجه القبيح للاحتلال، من خلال العمل الجاد والممنهج والمستمر. ولا شك أن من أهم وسائل مرحلة إساءة وجه بني إسرائيل، القوة الناعمة: العلم والمعرفة. فالدراسة المعمقة لآيات القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة، وحركة التاريخ، توضح للأمة المسلمة أن المعرفة – بمعنى الإدراك – هي البداية والنهاية، والقاعدة الأساسية لمثلث أو هرم التغيير والتحرير والعمران. وأن الإعداد المعرفي يمثل الأساس الذي يجب أن تبنى عليه جميع الإعدادات الأخرى. فالفتح المعرفي يجب أن يسبق الفتح والتحرير السياسي والعسكري.

كما أن الأحداث والمتغيرات السريعة والمتسارعة في منطقنا العربية تجعلني أكثر تفاؤلاً، وتزيدني يقيناً بل عين اليقين، بأننا نسير نحو تحقيق وعد الله القوي العزيز. فالمشروع الصليبي الاستعماري الاستراتيجي الغربي في المشرق الإسلامي، بشقيه الذي ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية: “الدولة العازل/إسرائيل”، وأنظمة الاستبداد والاستعباد والفساد والتبعية في المنطقة العربية، اكتملت دورته ووصل إلى ذروته، وفي مرحلته الأخيرة للزوال. فالكيان الصهيوني “الدولة العازل/إسرائيل”– الشق الأول للمشروع – وصل هذه الأيام إلى أعلى درجات علوه وفساده، برعاية ودعم مباشر من “حبل الناس”، الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية وأدواتها الإقليمية الذين يدفع بعضهم الجزية لها، ولاسيما أعراب دول/”دويلات القبيلة” من أنظمة الاستبداد والاستعباد والفساد والتبعية في المنطقة العربية، التي يرتبط وجودها العضوي بها. هذا المشروع الاستعماري “الدولة العازل/إسرائيل” دخل في 2017/2018 عقده الثامن، الذي يمثل تاريخ انتهاء صلاحيته وزواله، كما أكد العديد من العلماء والتصريحات والتقارير، كما زالت المملكة الصليبية في بيت المقدس. بمعنى آخر، اكتملت دورته ووصل ذروته، وسيصل إلى نهاية صلاحيته ونهايته/زواله التي سيسبقها ويتزامن معها، نهاية/زوال الأنظمة العربية المرتبطة عضوياً بهذا المشروع، وبعض الدول/الدويلات العربية من الخارطة السياسية لمنطقتنا العربية في بضع سنين.

هذا اليقين بل عين اليقين ليس جديداً. فقبل 34 عاماً – عندما كنت أعيش في أرضنا المقدسة المباركة – تحت الاحتلال الصهيوني، كتبت أثناء الانتفاضة الأولى في عام 1991 – كعبارة بارزة في “كتابي جذور القضية الفلسطينية: 1799-1923” الذي صدر في مدينة الخليل المحتلة بطبعته الأولى في عام 1991 وطبعته الثانية في عام 1992: “على أرض الإسراء فقهنا جِديّة الأهداف وخطورتها وحقيقتها، وعرفنا طبيعة التحدّي ونوعيّته. وفيها سيتقرّر المستقبل العربي والإسلامي.. ومنها سينطلق الفتح الإسلامي العالمي الثاني”. واليوم – في نهاية عام 2025، وبعد أكثر من عامين على طوفان الأقصى – أكتب هذا: “إلى جيل الانتصارات والتحرير والفتوحات الذي أراه يقيناً قادماً ومعيداً لأمتنا كرامتها وعزتها ومجدها ومكانتها بين الشعوب والأمم والدول، ومنطلقاً من بيت المقدس نحو الفتح الإسلامي العالمي القادم، والانبعاث الإسلامي العالمي الثاني بإذن الله “الفتاح العليم”.

ففي ضوء الأطر النظرية المتعلقة بنشأة وزوال الدول، وشواهد التاريخ وحركته التي تؤكد بحتمية زوال كل احتلال – طال وقته أم قصر – ومع تسارع الأحداث في دول المركز والتطورات المحلية والإقليمية والدولية، فالواقع يؤكد أننا نسير بخطوات سريعة ومتسارعة نحو تحقيق وعد الله تبارك وتعالى. فها نحن نشهد منذ عام 2017/ 2018 أحداثاً تمهيدية مجلجلة متصاعدة، تتصاعد وتيرتها وتشتد سنة بعد أخرى حتى تصل ذروتها بحدوث الزلزال السياسي القادم الذي سيضرب منطقتنا بقوة. هذه الأحداث في مجملها تجعل أمتنا المسلمة تقف على أبواب مرحلة مفصلية من تاريخنا المستقبلي، وتسرع بنا الخطوات، وتجعلني -أكرر مرة أخرى- أكثر تفاؤلاً وتزيدني يقيناً بل عين اليقين، بأننا نسير نحو تحقيق وعد الله القوي العزيز، وحتمية زوال هذا الكيان المحتل للمسجد الأقصى المبارك وأرضنا المقدسة المباركة.