سحرتني آية (17).. “قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ”

Cover Image for سحرتني آية (17).. “قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ”
نشر بتاريخ

من معالم السلوك إلى الله عز وجل، ومن أجلِّ الطاعات التي تشمل معاني العبودية لله تعالى؛ الدعاء. قال الله تعالى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (الفرقان، الآية 77).

والمراد بالدعاء في الآية الكريمة الطاعة والعبادة. “ذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى أن المقصود بالدعاء هو الإيمان. ومن قائل إن معناه دعاء الرسل للخلق هو السبب في إيمانهم، هذا من باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الإمام أحمد رحمه الله: “كَرَم المرء دينُه” أي أن دينَه يكون على مستوى كرم أخلاقه وكرم معدنه وكرم همته صعودا أو هبوطا. ذلك فذو الحظ العظيم من الدعاء ودوام الوقوف على باب الله أعلى إيمانا من قليل الدعاء” 1.

فالله عز وجل يحب العبد الذي يدعوه، بل والذي يلح في الدعاء. فالإلحاح في الدعاء هو إلحاح في العبادة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدعاء هو العبادة” (حديث الترمذي عن النعمان بن بشير). بل هو مخ العبادة.

فالاستغناء عن الدعاء رزية وحسرة وندامة، ومن جفا باب ربه كان قول الله في حقه: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ؛ لا يعبأ الله تعالى بمن يستغني عن دعائه، ولا يبالي بمن يعرض عن عبادته، ويغضب عليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يسأل اللهَ يَغْضَبْ عليه” (رواه الترمذي).

الاستغناء عن الدعاء استكبار عن العبادة، وفي هذا قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (غافر، الآية 60).

غير أن ما يريده الله عز وجل من دعاء العبد له، هو أن لا يفوته حظ من كرمه وعطاياه التي يغدق بها كل ليلة عندما ينزل سبحانه إلى السماء الدنيا. عن أبي هريرة  رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له. فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر” (رواه مسلم في صحيحه). 

لذلك تكون الحاجة إلى الدعاء حاجة تعبدية؛ لتحقيق الصلة بالله، وتمتين أواصرها بدوام الوقوف على بابه، وتكرار السؤال. كما أنّ الدعاء يعيد العبد إلى مقامه؛ مقام الانكسار والتذلل والافتقار والاعتراف بالعجز  والتبري من الحول والقوة.

كان السلف الصالح يظهرون حاجتهم للدعاء، حتى أنهم كانوا يسألون الله في جزئيات معاشهم.

روى الترمذي والإمام أحمد والبخاري رحمهم الله في الأدب المفرد بسند حسن عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لِيَسْأَلْ أحدُكُم ربَّه حاجته كُلَّها. حتى يسأل شِسْعَ نعْلِه إذا انقطع” وشسع النعل هو السير الرقيق من الجلد تربط به النعل.

كما أن الحاجة إلى الدعاء هي حاجة من أجل التزود والتسلح ليوم الشدة، فالدعاء في الرخاء عدّة ليوم الشدة. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب فليكثر الدعاء في الرخاء” (أخرجه الحاكم وصححه).

بيد أن أعظم حاجة في الدعاء هي الحاجة إلى الله تعالى، إلى عفوه ورضاه، إلى أسمائه الحسنى وصفاته العلا. قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأعراف، الآية 180).

“ذلك أن كرمه سبحانه فياض، وخزائن فضله زاخرة، فيريد منا أن نستمطر رحماته، وأن نكرر الطلب، ونُلِحَّ، لتَتَلَقَّى عبوديتُنا رأفة ربوبيته، ولِتَلتقِيَ حاجتُنا بوافر عطائه، ولِتَرتوِي نَهْمتنا بهاطل نَعمائه، وليستجيب غناه لافتقارنا، وقوتُه لضَعفنا، وقدرتُه لعجزنا، ووُجده لفقدنا، وكماله لنقصنا” 2.


[1] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 1، دار لبنان للطباعة والنشر، ط/2، ص244.
[2] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج1، مطبوعات الأفق/ الدار البيضاء، ط1996، ص373.