سحرتني آية (18).. “وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ”

Cover Image for سحرتني آية (18).. “وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ”
نشر بتاريخ

الذكر، النور، التنزيل، الفرقان؛ أسماء تشع نورا وبهاء، وتكتسي جمالا وجلالا، إنه كتاب ربنا، فيه خبر من قبلنا، وحكم ما بيننا، ونبأ من بعدنا، من أكرمه عز، ومن أهانه ذل. آياته صوى للعباد يتلمسون بنورها الطريق، وبها يستعدون ليوم المبعث والحساب، يوم يعلم الناس أن ذاك وعد من رب العالمين حقيق.

ومن الآيات التي تستوقف تالي القرآن العظيم، وتشده إليها شدا، قول ربنا جل وعز: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.

إن الغاية من هذه الدنيا جعلها وسيلة تصلنا بالآخرة، لا تقطعنا عن أصلنا، نبتغي فيها ونسعى، نجد ونكد لا نكسل، لا أن نقيم فيها قصورا من رمال تهوي لأضعف رجة. وعليه، فإعمال الجهد مع شحذ الهمم والإرادة، وشد العزم والإصرار مصروف للعمل الأخروي، ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. يقول ربنا تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.

فالدنيا دار طاعة وعمل وعبادة، استعدادا ليوم الجزاء والحساب، لا انغماسا فيها وتيها وضياعا.

ولكي لا تنحرف العقول، وتزيغ الفهوم، وتقصر المدارك، جاء التذكير الرباني بعدم إسقاط العمل الدنيوي بحجة ما سبق، فلا بد من تحقيق النصيب الدنيوي حتى يستقيم عمل الآخرة، وإلا كان عجزا وكسلا، وفهما سقيما عوجا، وهربا محضا، ورهبانية مبتدعة. بل جهاد على واجهتين، وحركة في اتجاهين، وقيام على ثغرين، وتحفز لمقصدين، إعمارا لدارين، وابتغاء لأجرين.

فكم جنح الفهم بعقول الناس حين يبترون الآية، فيهجمون عليك بالآية المقتطعة من سياقها العام: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا فغدا -بذلك الفهم المشوه- إعمار الدنيا أصلا وأساسا، قاعدة ومحورا، تستثنى منه أوقات مستقطعة وجيزة لركيعات وشيء من ذكر قليل. وفي وسط هذا المعمعان، حيث أقحل فيه الفهم وانتكس، أغفلنا وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ليغدو العمل الأخروي نسيا منسيا، وذكرا مطويا، لا قبل لنا به ذكرا وفكرا وسيرا.

فنرى الواحد منا سادرا في غفلته، لاهثا جاهدا يكد في هذه الدنيا، يقطعها طولا وعرضا، يصل الليل بالنهار، يسعى ويثابر، يجهد نفسه، ينافس أقرانه، وينفق نفيسه وأنفاسه، غاليه ورخيصه، ومن كل صفقة خاسرة يتيقظ ويتوفز، ينتبه ويتنبه، يحتاط ويحرس، يتطلع لكل غنيمة ومفازة ويحرص. حتى إذا ما ذكره مذكر، أو نصح ناصح، وأشفق عليه مشفق، أسمعه وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وحتما لا يذكر مبتدأ الآية من أمر اليوم الآخر، لا يذكر ما تقدم الآية من حض على استثمار ما في اليد ليوم غد، لا ذكر للحث على السعي والمسارعة في الخير، لا خبر. وحتى إذا ما أرخينا الحبل إلى نهايته مع صاحبنا، واستظهرنا منه رأس الآية، تجده متلعثما لا يذكر منها شيئا! فقد حفظ الآلة ونسي الغاية!

وجماع المعنى، أننا عابرون، ولعبورنا آجال محددة، أزمنة مؤقتة، وآماد معينة. عابرون مسافرون لا مقيمون، فيحق فينا ما يترخص به المسافر في صلاته: نقصر عن الشر، ونستزيد من الخير، نكثر من الصالحات، ونقل من الآثام والزلات، ونترفع عن الغفلة والفتن والشبهات، ونحجم عن الخوض في سفساف الأمر، ونترك الفضول، لأن القصد عزيز والوجهة الله، نهجر كل ذلك، لأنه مما يثقل المسير، ويشد إلى الأرض عجزا وكسلا، هجرا وإثقالا عن النفير، ويفت في عضد العزم والإقدام، يثبط إرادة الزحف والاقتحام.

يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”.

فكيف لعابر أن يستطيب المقام وهو راحل؟!

كيف لعابر أن يضل الطريق؟!

كيف لعابر أن يغفل عن المقصد ويزيغ عن الوجهة؟!

كيف لعابر يقصد العظيم ونظرته، ويتغيى الحبيب وشربته، ويهفو للقاء الآل والصحب والأهل والأحبة، يروي منهم حنينه وأشواقه، كيف له -مع ذلك- أن يتلهى؟!

العابر المجاهد، عابر لا يؤثر الأولى على الآخرة،

عابر لا يزهد في جناته لمنظر عاجل أغراه وأعجبه،

عابر لا يشيد صروحه على قنطرة،

عابر يبحث عن كل دليل، وناصح يطوي به الله محجته، ويقل عثرته،

عابر سميع لآي الله، لا يصم آذانه ويغمض بصره،

عابر يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة،

عابر لا يتواكل، يتوكل على مولاه، فلا ينسى من الدنيا نصيبه،

لا تنسيه الأولى في الثانية،

ولا الباقية العالية في الفانية السافلة،

بل يحسن كما أحسن الله إليه.

نسأل مولانا، جلت نواله، أن يجعلنا ممن كفاهم هم الدنيا والآخرة وأعانهم، وأن يجعلنا سبحانه الكريم من أبناء الآخرة وعمارها، لا من أصحاب الدنيا وجلاسها.