سؤال القيم في الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان المغربية (3)

Cover Image for سؤال القيم في الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان المغربية (3)
نشر بتاريخ

المحور الثالث: محددات خريطة القيم في الوثيقة السياسية

إن المحددات المطروحة في الوثيقة السياسية تعكس رغبة جماعة العدل والإحسان في أن تسود ثقافة تحضر فيها قضايا الإنسان والمجتمع، وتشكل في ذات الوقت نقطة ارتكاز للاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية للمغرب. ويمكن تجميع هذه القيم في محددات جامعة:

المحدد الأول: مركزية الإنسان

حسب الوثيقة السياسية لا يروم المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان تحقيق تغيير سياسي مرحلي فحسب، بل إنه مشروع يمتد أفقه إلى إحداث تغيير تاريخي يتأسس على بناء الإنسان (ص 20)؛ لذلك يركز المشروع العام لجماعة العدل والإحسان على أولوية بناء الإنسان بناء أخلاقيا فطريا شاملا، انطلاقا من بناء إرادة التغيير وترسيخها لديه والعمل على تجددها المستمر، على اعتبار أن الإنسان هو الفاعل في التاريخ، وهو من يصنع السياسة وليست هي من تصنعه.

كما أن لُبَّ السياسات هي تزكية نفس الإنسان وتعليمه، وتربيته تربية إيمانية متوازنة، تؤهله لتحصيل قيم الخير وأخلاق الصلاح؛ ليكون فردا صالحا لنفسه ومجتمعه ووطنه وأمته (ص 20). يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: المستقبل لتغيير عميق شامل، تغيير من داخل الإنسان، من تربية الإنسان، من تعليم الإنسان” 1.

وتبرز مركزية الإنسان ضمن المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان في أنها تطرح عددا من المقتضيات، من بينها “تقديم مصلحة الإنسان وما يجلب له النفع عبر تمكينه من كل حقوقه، والوعي بأهمية العمل التربوي ومتطلباته الأساسية في البناء الشامل للإنسان تعليما وتكريما وتمكينا. تقوم أولوية بناء الإنسان في المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان أساسا على وصل الإنسان بخالقه، وعلى تهذيب علاقته بالكون” (ص 20).

على جانب ذلك تقتضي مركزية الإنسان ضمان الحقوق والكرامة في علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، والإحسان سمو بهذه العلاقة نحو رب الإنسان (الوثيقة السياسية، ص 25)، ناهيك عن صون كرامته بوصفها تشريفا من الله عز وجل للإنسان، ومعارضة كل ما يمس بكرامة الإنسان ويحط من إنسانية الإنسان، كل إنسان، والدفاع عن هذه الكرامة، وأيضا تحقيق الحرية له، بوصفها قيمة شرعية وإنسانية مثلى يتوقف عليها تقدم الشعوب والمجتمعات وازدهارها، بل تتوقف عليها حياة الإنسان، إذ لا معنى لحياة بلا حرية.

المحدد الثاني: تشييد مجتمع العمران الأخوي

تطرح الوثيقة السياسية طبيعة المجتمع الذي تسعى إلى تحقيقه وبنائه، وتصفه بمجتمع العمران الأخوي تسود فيه “معاني الولاية العامة محبة وتعاضدا وتعاونا وتكافلا، على قواعد الأخوة الإيمانية والأخوة الإنسانية، فنؤسس في معنى العمران لتوليفة جامعة لمعاني الازدهار والتقدم والتنمية والحضارة مع دلالات التضامن والتكافل، لتنجمع عمارة القلوب بالإيمان بعمارة المساجد بالصلاة، وعمارة المجتمع بقيم المحبة والرحمة والأخوة الإنسانية بعمارة الكون والأرض” (ص 22).

في هذا المجتمع “تنطلق الهمم والعقول والسواعد نحو فعل الخير والتنمية والبذل والعطاء تحقيقا لمجتمع العمران الأخوي بدل مجتمع الفتنة والتباغض والصراع” (ص 21)، خاصة أن مجتمع العمران الأخوي “يحرص على تحقيق التأهيل الذاتي للأفراد بما يجعلهم يجمعون بين القوة والأمانة والكفاءة والأخلاق” (ص 22).

في هذا الباب تطرح الوثيقة بعض المقترحات لتحقيق مجتمع العمران الأخوي، ويمكن الإشارة إلى ما ورد في فقرة واجهات الفعل الثقافي والفني ضرورة “إعادة الاعتبار للثقافة والفنون وجعلها من بين أولويات مشروعنا الوطني وجعلها قاعدة صلبة لها، لتشكل حلقة أساسية في البناء ولبنة متينة من لبنات العمران الأخوي المتماسك” (ص 188).

المحدد الثالث: ترسيخ القيم الإسلامية في تأسيس مفهوم المواطنة

ينطلق المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان من رؤية مرجعية تقوم على الاتصال بين القيم الإسلامية والحكمة البشرية في تفاعلها مع الواقع الإنساني والاجتماع البشري، ولذلك فإن مطلب ترسيخ القيم الإسلامية ليس إجراء زجريا يتم فرضه على الأفراد والمجتمعات، بقدر ما هو فعل تربوي وعمل دؤوب يتغيا التدرج في تنزيل مبادئ الإسلام وقيمه ومقاصده في حياة الأفراد والمجتمع، وتحقيق مطالبه الأساسية في حفظ الحرية والأمن والعدل والسلم الأهلي والتراحم الإنساني” ص 23.

في هذا السياق تم التأكيد على ضرورة ترسيخ القيم الإسلامية عند الحديث عن مفهوم المواطنة وقد ورد في فقرة الرؤية الثقافية: مرتكزات ومحددات “المواطنة ترسيخ الهوية الإسلامية بأبعادها الوجودية والرسالية، ودعم العمق الإسلامي لهويتنا الوطنية بأبعاده الأصيلة والوسطية المستوعبة لمختلف المكونات الثقافية الوطنية” (ص 185).

المحدد الرابع: البعد الوحدوي وروافد الانتماء الوطنية

أكدت الوثيقة على تبني قيمة الانتماء المغاربي والعربي والإسلامي والإفريقي، والتي تجعل من المغرب وحدة مهمة في البناء الحضاري والمشترك الإنساني بين مختلف شعوب العالم، وذلك في إطار التفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء.

في هذا السياق اقترحت الوثيقة ضرورة ترسيخ الوحدة والتعاون، من خلال الوقوف “ضد كل مشاريع التفتيت والتجزئة المحلية والإقليمية، والدفاع عن الوحدة الترابية للدول العربية والإسلامية، وتقوية الشعور بالانتماء للوطن وللمجال المغاربي والإفريقي وللأمة العربية والإسلامية” (ص 26).

كما اعتبرت الوثيقة أن ترسيخ قيم المواطنة يتطلب “التوفيق بين مختلف دوائر الانتماء التي تنتظم الأفراد والمجتمع، وذلك بجعل هذه الدوائر المتعددة، ومنها الانتماء للدولة الوطنية والانتماء للأمة العربية والإسلامية وللإنسانية عامة، تتكامل فيما بينها ولا تتناقض” (ص 23).

المحدد الخامس: قيم التعاون والتضامن الإنساني

نصت الوثيقة السياسية على قيمتي التعاون والتضامن، وذلك على أساس الشراكة البناءة، وربط أواصر الإخاء والصداقة والتعاون والتضامن، فإلى جانب قيمة الاعتراف بوجود الثقافات والحضارات الأخرى، العمل على المحافظة على السلام والأمن في العالم، وتحقيق التقدم المشترك للبشرية جمعاء.

في هذا السياق تطرح جماعة العدل والإحسان في الوثيقة مشروعا قائما على توحيد الأمة الإسلامية، وقد جاء في هذا الباب ما نصه: “وتشكل الوحدة الإسلامية الجامعة مطلبا ملحا وأفقا استراتيجيا في عالم التكتلات الكبرى”، ومن أجل تفعيل ذلك طرحت الوثيقة مسألة تكريس الارتباط العضوي بالأمة العربية والإسلامية، وهو ما يقتضي العمل بمبدأ التعاون والتنسيق السياسي والثقافي والاقتصادي مع كل الشعوب والدول العربية والإسلامية، وذلك ببذل مزيد من الجهود لزيادة التعاون الثنائي مع هذه الدول، واعتماد دبلوماسية متعددة الاتجاهات تحقيقا للمصالح العليا المشتركة” (ص 51).

كما طرحت الوثيقة مسألة التعاون والتضامن مع باقي دول وشعوب العالم، وقد نصت على ما يلي “يشكل التعاون بين الدول والمنظمات وشعوب العالم موقفا مبدئيا نتشبث به وندعو إليه لمواجهة ما يُهدد الإنسانية من تحديات على أساس من الاحترام التام لقواعد التعايش المشترك (ص 26 – 27)، كما دعت الوثيقة إلى “تنويع العلاقات الخارجية، لتشمل العديد من الدول والتجمعات الدولية، وتكثيف التعاون خاصةً في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والاستثمار والتجارة” (ص 26 – 27).

المحدد السادس: قيمة العدالة الاجتماعية

تعتبر العدالة الاجتماعية من القيم التي يتأسس عليها بنيان الدولة، في إطار من الإلزام بأداء الواجبات، وتمكين ذوي الحقوق من حقوقهم المشروعة. ومواجهة اختلالات توزيع الفرص التي تتيحها الدولة والمجتمع لفائدة مختلف الشرائح الاجتماعية. في إطار المساواة أمام القانون والقضاء، وأمام الوظائف العامة، وأمام التكاليف والأعباء التي تفرضها الدولة على المواطنين. إن مطلب تفعيل قيمة العدالة الاجتماعية يتجسد من خلال إقرار مطلق لدولة الحق والقانون؛ وذلك من خلال تمفصلات العدالة التي تتجلى في: العدالة في السلوك السياسي من خلال إقرار “مساواة الجميع أمام القانون، حكاما ومحكومين، وحماية حقوق وحريات كل المواطنين بواسطة نص الدستور والمؤسسات والآليات القانونية والقضائية، التي تسمح بمواجهة كل شطط من شأنه المس بالحقوق والحريات” (ص 34). وفي هذا الباب تم اقتراح في فقرة “من أجل منظومة إعلامية مهنية تعددية وفاعلة” ضرورة “احترام التعدديَّة السياسية وتكريس العدالة المجالية، والتنوع الثقافي والمجتمعي، وضمان المساواة في الظهور والولوج، وحرية التعبير بموضوعية وبدون أي تحيُّز” (ص 182).

وأيضا من خلال إقرار العدالة في مقومات العيش الكريم، وجعل كرامة الإنسان في المقام الأول، من خلال إعطاء كل إنسان حقه في أخذ نصيبه من المنفعة العامة والرفاهية والازدهار ليحقق آدميته وإنسانيته، أو على الأقل إشباع الحاجات الضرورية التي لن تستقيم الحياة إلا بها “فلا معنى لوجود حرية وديمقراطية سياسية في ظل استعباد اقتصادي واجتماعي للمواطن بدعاوى مختلفة.

ولا يمكن أن تصان كرامة الإنسان بدون نهج الدولة لسياسات واضحة لإقرار العدالة الاجتماعية، وكذا بدون وجود حد أدنى يُمكّن المواطن من العيش الكريم من خلال توفير ضروريات الحياة، كما اعتبرت الوثيقة العدالة الاجتماعية حقا وواجبا، فقد اقترحت ما يلي: باعث الحق والواجب “وذلك باعتبار العدالة الاجتماعية حقا وواجبا، وليست خدمة اجتماعية ظرفية أو إحسانا عموميا” (ص 131).

في هذا الباب أكدت الوثيقة السياسية أن الجماعة تطرح تنميةً تحقق العدالة الاجتماعية، وتضمن الكرامة الإنسانية، وتصبو للحرية في إطار نموذج حضاري يصون الهوية المجتمعية ويحافظ عليها (ص 145).

المحدد السابع: تخليق الحياة الاقتصادية

يظهر مطلب التخليق من خلال عنوانه الفرعي الذي ركز على ثلاثية العدالة والتكافل والتنمية المستدامة كقيم دافعة لا بد منها لتحقيق التنمية الشاملة. ثلاثية يبدو أنها تنسجم مع أسس بناء الإنسان والعمران الأخوي ودولة الحقوق.

ويتجلى مطلب التخليق من خلال مضامين بعض المرتكزات التي وضعتها الوثيقة شرطا لتحقيق رهان التنمية الشاملة؛ ومن ذلك ما جاء في مرتكز الاقتصاد المسؤول “فلا يجعل الانسان آلة أو يجعله يلهث وراء حاجيات ورغبات مادية لا تنتهي” (ص 83). كما يمكن الوقوف ضمن مرتكز “اقتصاد أخلاقي” عند مقولة إن “الفضائل الأخلاقية أساسية لزرع الثقة وتجذرها في العمليات الاقتصادية. ناهيك عن الحديث ضمن ذات المرتكزات عن آليات التوزيع المنصف والمتوازن مجاليا – اقتصاد العدل – أو عن ضرورة جهاز مؤسساتي فعال لمراقبة مدى احترام شروط المنافسة بعيدا عن الاحتكار واستغلال النفوذ والتفضيلات غير المشروعة”. 


[1] العدل، الإسلاميون والحكم، 2000 ، ص 691.