المحور الثاني: مصادر القيم في الوثيقة السياسية
المصدر الأول: الدين الإسلامي
يعتبر الدين الإسلامي في مطلق أسسه وغاياته، من أول المصادر التي استقت منها الوثيقة السياسية قيمها ومبادئها، فهذه الأخيرة في مجموع فصولها تضمنت الإحالة على القيم سبعة عشر مرة، والإحالة على الدين اثني عشرة مرة، والتي يمكن تصنيفها إلى ثلاث مستويات، وتهم: الدولة ومؤسساتها خاصة وأن الدين الإسلامي هو الموجه للاختيارات القيمية التي تستند عليها السلطة السياسية في ممارستها لسلوكها السياسي والاجتماعي. وثانيا: الأمة المغربية، فدين الإسلام هو دين المجتمعية لا دين الفردية، دين المسؤولية المشتركة لا دين الخاصية الذاتية. وثالثا: جماعة العدل والإحسان ذاتها التي تسعى لإقامة الدين في نفسها وفي المجتمع، عبر الدعوة السلمية الرفيقة، والحراك المجتمعي المدني على جميع أصعدة الفعل الإنساني، تربية وتفكيرا وتثقيفا وتنويرا وتعليما وتنظيرا وتدافعا” (ص 18)؛ وهذا الأمر يبرز في بعدين اثنين هما:
البعد الأول: الوفاء للمشترك التاريخي للشعب المغربي
الوثيقة السياسية في أصلها مجموعة من الاختيارات المجتمعية الموجهة للسياسات العامة التي تتبناها جماعة العدل والاحسان في تدبيرها للشأن العام، وهي تعود في جوهرها إلى مصدر المشترك القيمي الذي نحته المغاربة على مر قرون من الزمن، في هذا الإطار يعتبر الدين في مطلقه من أهم المصادر المنتجة لهذه القيم وهو ما أثاره واضعو الوثيقة.
البعد الثاني: التأكيد على سمو مرجعية الدين الإسلامي في الوثيقة
ويتجلى ذلك في تبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة للهوية المغربية، فالتأكيد على مصدرية الدين الإسلامي للوثيقة السياسية يحمل الدولة ومؤسساتها مسؤولية الإعلاء من مكانته في المجتمع وفي الحياة العامة، فقد ورد في فقرة تدبير الحقل الديني أنه: “إذا كان الفرد والمجتمع معنيين بحفظ الدين وتحقق الإيمان وصلاح السلوك، فإن مسؤولية تمكين الناس من ممارسة تدينهم تقع على الدولة ومؤسساتها، من خلال سياساتها وتدبيرها للحقل الديني ومرافقه العمومية وشعائره الروحية، مع ما يفرضه ذلك من فسح المجال للدعوة وتشجيعها لتمارس وظائفها في التربية الإيمانية المتكاملة والتوجيه الأخلاقي للمجتمع، ولتجدد فهم المسلمين لدينهم بما يحقق الانتقال من إسلام فردي إلى إسلام جماعي، ومن إسلام مشتت إلى إسلام جامع، ومن إسلام سكوني إلى إسلام فاعل” (ص 145).
من جانب آخر حتى يتم إعطاء الدين حقه في الحياة العامة؛ قدمت الوثيقة بعض المقترحات في هذا الباب، حيث نصت على ما يلي: “إن إعطاء الدين مكانته اللائقة في المجتمع يتطلب من منظورنا سن سياسات تيسر وتسهل حق الأفراد في التدين، كما يتطلب تجديد الفقه اجتهادا مجددا جامعا بدل أن يظل منحبسا دون تفصيل القول في الفقه السياسي نتيجة ضغط الاستبداد وتغول السلطة، أو جامدا غير متفاعل مع واقع الناس وحاجياتهم المستجدة” (ص 14).
المصدر الثاني: السلوك الجمعي القيمي
تعتبر قيم المجتمع وسلوكه الجمعي المتواتر مصدرا من مصادر القيم في الوثيقة، ويقوم هذا الاعتبار على كون المجتمع سابق في الوجود عن الدولة، وأن هذه الأخيرة في عمقها هي إفراز طبيعي للمشترك القيمي السائد في المجتمع.
وإذا كانت “الهوية هي الكيفية التي يعرف الناس بها ذواتهم أو أمتهم، وتتخذ اللغة والعرف والثقافة والدين أشكالا لها، فالمجتمع هو المحضن الفطري لنشوء هوية السلوك الجمعي الذي يختزل مؤشرات منظومة القيم المؤطرة لسلوك المجتمع. وتتجلى مصدرية قيم المجتمع والسلوك الجمعي في الوثيقة السياسية من خلال:
1- صيانة تلاحم وتنوع مقومات الهوية الوطنية
إن استدعاء الوثيقة السياسية لقيم المجتمع ومقومات هويته الوطنية لتشكيل خريطته القيمية، كان من باب بناء التوازن في الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، وما يقتضيه ذلك من ضبط السلوك الدولتي ليتلاءم مع سلوك المجتمع وأولوياته.
وفي ذلك استندت الوثيقة على دعامات تمتين اللحمة الوطنية بين مكونات الهوية المغربية، والتي شملت إضافة إلى مكون العربية الإسلامية، أيضا الانتماء المغاربي والإفريقي؛ في هذا السياق ورد أن من باب تحقيق ترسيخ القيم الإسلامية في تأسيس مفهوم المواطنة ما يلي: “من أجل ذلك، يتطلب الأمر العمل على ترسيخ قيم المواطنة مع التوفيق بين مختلف دوائر الانتماء التي تنتظم الأفراد والمجتمع، وذلك بجعل هذه الدوائر المتعددة، ومنها الانتماء للدولة الوطنية والانتماء للأمة العربية والإسلامية وللإنسانية عامة، تتكامل فيما بينها ولا تتناقض” (ص 23).
كما أشارت الوثيقة إلى أن من الأهداف العامة للمشروع السياسي للجماعة هو تحقيق التلاحم والوحدة وصيانة هوية الأمة، فقد ورد أن: “من الوحدة الوقوف ضد كل مشاريع التفتيت والتجزئة المحلية والإقليمية، والدفاع عن الوحدة الترابية للدول العربية والإسلامية، وتقوية الشعور بالانتماء للوطن وللمجال المغاربي والإفريقي وللأمة العربية والإسلامية (ص 26).
كما أثارت الوثيقة في فقرة الرؤية الثقافية: مرتكزات ومحددات على “ضرورة حفظ الهوية الوطنية المغربية بتنوعها الثقافي واللغوي، وبث الشعور الوطني البنّاء والاعتزاز بالروافد والمقومات المحلية دون تعصب أو انغلاق، وأيضا دعت الوثيقة إلى اعتماد مقاربة ثقافية تعزز التماسك الاجتماعي وتقوي منعة المجتمع ضد دعاوى التفتيت والعصبية والعنصرية والصهيونية”.
إن الإقرار بتنوع روافد الهوية المغربية، هو إقرار بتنوع القيم الناتجة عن هذا التعدد، والقابلة للانصهار فيما بينها، وتوسيع دائرة المشترك لاستنبات قيم التعاون والتسامح بين عموم المغاربة.
2- تعزيز قيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار
من حيث اعتبار هذه القيم هي المؤطرة للسلوك الجمعي للمغاربة، وعلى أساسها يتم استكمال البناء المتراص للمجتمع والدولة معا؛ على أساس أن “هويتنا الجمعية هي نتيجة علاقاتنا بالآخرين، ومكانتنا بينهم وهذه العلاقة في جوهرها تقوم على هذه القيم”.
وحتى في ظل اختلاف المرجعيات بين الأفراد، يعمل خزان القيم المجتمعي على الإبداع في لغة التواصل وإقامة جسور التعاون، ليتحقق الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، وعبره يبدع الإنسان في حياته وفي مختلف المجالات، وعوض أن يكون سببا من أسباب الصراع، يصبح عاملا من عوامل التنافس المشروع الذي يصب في قناة الرقي والتقدم للمجتمعات ذات المرجعيات المختلفة.
في هذا السياق دعت الوثيقة في فقرة الرؤية الثقافية: مرتكزات ومحددات إلى “ترسيخ مبدأ الحق في الاختلاف والاعتراف المتبادل واحترام التنوّع الثقافي موازاة مع ترسيخ مبدأ التكامل والتعاون وثقافة التعايش السلمي ونبذ الكراهية والعنف، وتعزيز قيم الحوار والتسامح، وأيضا دعم الانفتاح الإيجابي الواعي على الثقافة الإنسانية في بعدها الكوني، والإسهام الفعال في بلورة المشترك الحضاري الإنساني مع مقاومة الاستلاب والاستتباع الثقافي” (ص 185).
إن اعتبار السلوك الجمعي القيمي مصدرا من مصادر الخريطة القيمية، مرده الشحنة القيمية المشتركة التي تؤطر السلوك العام، والتي تصبح مسيجة للنظام العام القائم على فلسفة التعاقد الاجتماعي”.
المصدر الثالث: التعاقد الاجتماعي
إن تتبع القيم التي حفلت بها الوثيقة السياسية، ورصد مداخلها المذهبية، يوصل إلى إقرار أن مهندسي الوثيقة اعتبروا التعاقد الاجتماعي مصدرا في رسم معالم خريطة الحقوق والواجبات بين أطراف التعاقد، ومن هذا المنطلق يستلزم إبراز دلالة التعاقد الاجتماعي في الوثيقة تسليط الضوء على طبيعة الأطراف المتعاقدة ومضمون هذا التعاقد.
1- أطراف التعاقد الاجتماعي
تمثل الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الطرف الأول في هذا التعاقد، والمجتمع باحتياجاته ومتطلباته التربوية والتعليمية والتنموية وغيرها الطرف الثاني، على أساس الخدمة المتبادلة، وذلك من حيث إلزام الدولة ومؤسساتها بأن تكون في خدمة المواطن والمجتمع، وتعبئة كل الوسائل المتاحة لذلك، في مقابل تقديم الدعم والإسناد للسلطة السياسية الحاكمة.
في هذا الإطار ورد عند حديث الوثيقة عن دولة اللامركزية اقتراح ما يلي: “اعتماد مبدأ التعاقد مع الساكنة على أساس برامج جماعية وجهوية واضحة، وذلك لتوضيح المسؤوليات وتحديد الأهداف، في إطار أغلبية تتحالف على برامج تنموية محددة” (ص 46).
كما أن الوثيقة تحدثت عن بعض أهداف جماعة العدل والإحسان في فقرة “من مجتمع الدولة إلى دولة المجتمع”، حيث تسعى الجماعة إلى الإسهام في بناء دولة عصرية عادلة منضبطة للتعاقد الدستوري المنبثق عن الإرادة الشعبية… دولة تسعى عبر مؤسساتها وبرامجها إلى مشاركة المواطنين في الحياة العامة، مع خضوع مسؤوليها للمحاسبة والمساءلة بغض النظر عن مكانتهم السياسية ومواقعهم الاجتماعية” (ص 33).
ومن أجل تحقيق هذا التعاقد اقترحت الوثيقة “ضرورة توسيع الشراكة المجتمعية بين مؤسسات المجتمع وقواه الحية، انطلاقا من العمل المجتمعي وسط الشعب، والتواصل المباشر مع المواطنين سعيا لرفع الوعي، ودفعا للسلبية، وتأسيسا لعلاقة جديدة بين المواطن والشأن العام، مع إعادة الاعتبار للعمل الجماعي التطوعي التشاركي. ويقتضي ذلك أن ترفع الدولة يدها عن الأحزاب السياسية لتقوم هذه الأخيرة” (ص 34).
2- مضمون التعاقد الاجتماعي
تتعهد الدولة في تعاقدها مع المجتمع وهيئاته وأفراده، بالوفاء ببناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، وتلتزم بتقوية مؤسسات دولة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة.
في هذا السياق أشارت الوثيقة إلى أنه من الضروري أن تنضبط الدولة المنشودة للمبادئ الآتية: مساواة الجميع أمام القانون؛ حكاما ومحكومين، وحماية حقوق وحريات كل المواطنين بواسطة نص الدستور والمؤسسات والآليات القانونية والقضائية، التي تسمح بمواجهة كل شطط من شأنه المس بالحقوق والحريات. جعل كرامة الإنسان في المقام الأول، فلا معنى لوجود حرية وديمقراطية سياسية في ظل استعباد اقتصادي واجتماعي للمواطن بدعاوى مختلفة. ولا يمكن أن تصان كرامة الإنسان بدون نهج الدولة لسياسات واضحة لإقرار العدالة الاجتماعية، وكذا بدون وجود حد أدنى يُمكّن المواطن من العيش الكريم من خلال توفير ضروريات الحياة، التي يمكن أن تتسع كلما استقر الاقتصاد الوطني ونما وتقدم. جعل التعددية السياسية أساس العمل السياسي، مع ما يتطلب ذلك من ترسيخ لثقافة القبول بالآخر مهما كانت الاختلافات والتباينات” (ص 34).
ويقتضي ذلك صياغة ميثاق جامع من أجل صياغة دستور ديمقراطي، وربطا للأفكار والمقترحات أعلاه بما سبقها من مبادئ مُؤَسِّسة، وهذا ما طرحته الوثيقة نقترح ما يلي: الرؤية الاستراتيجية “صياغة ميثاق جامع عن طريق الحوار والتوافق، يعبر عن وثيقة المبادئ فوق التي يريدها المغاربة لبلدهم يمكن أن نصطلح عليه بالدستور” (ص 37).
كما يقتضي أيضا أن ترفع الدولة يدها عن الأحزاب السياسية لتقوم هذه الأخيرة بما يفترض فيها من تنافس على الحكم وتمثيل للمواطنين وتأطير سياسي لهم، وفسح المجال للجمعيات الثقافية والحركات الدعوية والتنظيمات المدنية ومؤسسة العلماء للإسهام في نشر القيم الأصيلة التي تبني الإنسان وترسخ فيه البواعث السامية.
المصدر الرابع: القبول بالمواثيق الدولية في إطار السيادة الوطنية والخصوصية المغربية
من جملة ما يترتب على نظرية سيادة الدولة حقها في إدارة علاقاتها الدولية وإبرام الاتفاقيات والمعاهدات، من حيث تمتعها بكامل السيادة في ربط علاقات مع غيرها من الدول، والحق في إبرام أو التصديق أو حتى الرفض والتحفظ على كل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية. ويبدو أن تنصيص الوثيقة السياسية على مصدرية المواثيق الدولية، يقوي من الالتقائية مع المشترك القيمي الإنساني الكوني والحضاري، ويعزز من فرص التعاون بين مختلف دول العالم، في إطار من الاحترام للخصوصيات الوطنية والسلوك الجمعي القيمي.
في هذا الإطار قدمت الوثيقة بعض المقترحات؛ حيث ورد في فقرة دولة مستقلة ومنفتحة “دعم كل مبادرات السلم والاستقرار والتعاون التي تضمنتها المعاهدات والاتفاقات الدولية التي وقعها المغرب، في إطار العمران الأخوي المنشود والوفاء بالعهود، بما يخدم المصلحة العامة ويحقق التنمية والسلم والاستقرار في العالم” (ص 54).
كما طرحت الوثيقة مسألة: “تنويع العلاقات الخارجية، لتشمل العديد من الدول والتجمعات الدولية، وتكثيف التعاون خاصةً في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والاستثمار والتجارة. وتطوير وتفعيل الحضور في المنظمات الدولية، بما يخدم الأمن والسلم والاستقرار والتفاهم وتغليب لغة الحوار وترجيح بناء المصالح المشتركة في حل الأزمات والنزاعات الدولية، إسهاما في تحقيق نظام عالمي مؤسَّس على الأمن والاستقرار والتعايش السلمي والعدالة الاجتماعية” (ص 53).
– يتبع –