زواج الآخرة

Cover Image for زواج الآخرة
نشر بتاريخ

همسة في أذن الأزواج بكلام نفيس لأم الدرداء الصغرى، تابعية جليلة تزوجها سيدنا أبو الدرداء بعد وفاة أم الدرداء الكبرى: عن جبير بن نفير عن أم الدرداء أنها قالت لأبي الدرداء: “إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا فأنكحوني، وإني أخطبك إلى نفسك في الآخرة. قال: “فلا تنكحي بعدي” فخطبها معاوية، فأخبرته بالذي كان، فقال لها: عليك بالصيام” 1.

عاشت سيدتنا أم الدرداء سعادة كبرى صحبة سيدنا أبي الدرداء فاختارته رفيقا أبديا، ملأت السكينة بيتهما، فتمنت دوام زواجهما في الآخرة، امتلأ قلبيهما مودة فشاعت ظلالها أنسا، نبعت روحهما من ينابيع الإحسان فأصبحت حياتهما جنة أبدية. فما هي أسرار هذه السعادة؟ وكيف نسمو بالعلاقة الزوجية ونرتقي بها إلى هذه المعاني العظيمة؟

اسْجُدْ وَاقْتَرِبْ

مقام الأنس والقرب من الله مقام رفيع، مدخله الأساس “اسجد” بكل ما يدل عليه الفعل من معاني الذلة بين يدي الله والعبودية له سبحانه، وبوابته الأصلية “اقترب” بكل ما يلوح إليه الفعل من معاني الإقبال على الله تعالى قلبا وقالبا. فالعبادات التي تجمع بين الزوجين تثمر الحب والرضا، وتحول بيتهما إلى جنة. فما أعظم أن تشاهد زوجين صالحين يتعاونا على طاعة الله! وما أجمل أن ترى الزوجين قد استعدا لجلسة ذكر أو الإفطار معا، وقس على ذلك قراءة القرآن وغيرها من الأعمال الصالحة، فتعاون الزوجين على مثل هذه الأمور عماد السعادة والطمأنينة، ومن جرب هذا وجد طعم هذه الحياة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقرَه بينَ عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له” 2.

لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا

“الجِنْس إلى الجِنْس أَمْيَل وبه آنَس، وإذا كانت بعضاً منه كان السكون والمحبة أبلغ”، مقولة بليغة تجسد حكمة الخالق في خلق كل من الذكر والأنثى على نحو يجعله موافقـا للآخـر، مُلبيـا لحاجتـه الفطرية، بحيث يجد عنده الراحة، والطمأنينـة، والاسـتقرار، ويجـدان فـي اجتماعهما السكن والاكتفاء. فالزوجة ملاذ للزوج يأوي إليها بعد تعبه اليومي في سبيل تحصيل لقمة العيش، ويركن إلى مؤنسته بعد كده وجهده، يلقي بمتاعبه إلى رفيقته التي ينبغي أن تتلقاه فرحة، مبتسمة، يجد منها أذنا صاغية وقلبا حانيا. والزوج مركز أمان للزوجة، فيقتنص الفرص ليعبر لها عن امتنانه وتقديره لما تقوم به من أعمال ليست مكلفة بها شرعا، ويعبر عن رضاه عنها بالتبسم وبشاشة الوجه، والكلمة الطيبة. فالشكر والمدح يعلي من همتها ويطيب خاطرها.

مَوَدَّة وَرَحْمَة

ليست المودة والرحمة بين الزوجين بالأمر المحال، فهي تتطلب الأخذ بأسباب الحصول عليها بكل الطرق الممكنة من قول أو فعل، مع اجتناب ما يضعفها في القلوب. إن الأخذ بأسباب حلو المظهر والتزين من كلا الزوجين للآخر، والتودد بطيب الكلام، والتغافل عن الزلات والتماس الأعذار، لهي طرق تفضي للمودة والرحمة، وإن لحظة ترفيه تجمع بينهما، ومشاركة منزلية تضمهما، والاستماع لشكوى والتوجع معها، والتداعي في مرض وتخفيفه، وإتيان كل زوج بما عليه قبل أن يطلب ما له، وتفهم حال الزوجة وما جبلت عليه، وإعانة الزوجة زوجها على العدل وأداء الحقوق، كل ذلك من عوامل دوام المودة والرحمة بين الزوجين.

هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ

آية قرآنية جليلة تؤصل لعلاقة زوجية عظيمة بأوجز عبارة وأكبر دلالة. تصوير بديع، توحي بمئات الصور والمعاني، فيه من قوة المشاعر المتبادلة، وعمق الوصال والتودد، لمسة حانية تمنح العلاقة الزوجية نداوة، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة. و”اللباس ساتر وواق.. وكذلك هذه الصلة بين الزوجين. تستر كلا منهما وتقيه. والإسلام الذي يأخذ هذا الكائن الإنساني بواقعه كله، ويرتضي تكوينه وفطرته كما هي، ويأخذ بيده إلى معارج الارتفاع بكليته.. الإسلام وهذه نظرته يلبي دفعة اللحم والدم. وينسم عليها هذه النسمة اللطيفة” 3.  

أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍۢ

يدع القرآن الفعل «أفضى» بلا مفعول محدد، يدع اللفظ مطلقا لتشــع معانيه، لا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته، بل يشمل العواطف والمشاعر، ففي كل إحساس بالحب إفضاء، وفي كل نظــرة ود إفضاء، الرجل والمرأة شريكان في حياة واحدة، رفيقا سفر، والرباط المقدس الذي يجمع بينهما وهما يتقاسمان السراء والضراء، ويتطلعان إلى مستقبل واحد، ومن خلال هذا التعايش يولد الحب وتتفجر ينابيع العاطفة. وكما هو معروف فإن كل شيء لا ينشأ عبثاً، بل ينبغي السعي إلى تثبيت وتعزيز أواصر المحبة. فالرجل يحتاج حب المرأة، والمرأة تحتاج إلى عطف الرجل وحنانه.

وختاما، لعزة الزواج الإسلامي ونفاسة معانيه ينبغي للمؤمن والمؤمنة أن يسعيا لكي يجعلا في أيديهما كل شروط نجاح الزواج. هذه المعاني “تسمو به ليكون الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات، يجمع شملهم الطهر والإيمان والإحسان والرحمة والمودة في الدنيا لِتسْعَدَ رحلتهم إلى الآخرة حيث يُقال: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ 45.


[1] الإصابة، ج 7، ص 630.
[2] رواه الترمذي.
[3] في ظلال القرآن لسيد قطب، ص 26.
[4] سورة الزخرف، الآية 70.
[5] تنوير المومنات ج 2، ص 143.