زمن ما “بعد غزة” ونقض الخطاب القيمي الغربي

Cover Image for  زمن ما “بعد غزة” ونقض الخطاب القيمي الغربي
نشر بتاريخ

زمن ما “بعد غزة” ونقض الخطاب القيمي الغربي

(نحو إبدال جديد يجعل الإسلام الدين الخاتم حقا من حقوق الإنسان)

تنبيه:

ليست غاية هذه المقالة التنقيص من البعد “القيمي” للخطاب الحقوقي الغربي العولمي، إنما غايتها عرض فكرة أن هناك إمكانيات كبرى للتحرر من سطوة هذا الخطاب الذي كذبت أفعالُه أقوالَه في غزة العزة الآن، وفي غيرها بالأمس البعيد والقريب.

 

كثيرا ما يتحدث الخطاب الفلسفي والسياسي عن أزمنة ما “بعد”؛ فنجد زمن ما بعد الكولونيالية، وما بعد الحداثة، وما بعد الحرب الباردة، وهي اصطلاحات تؤسس لجملة التحولات التي تعتري مسار الفكر البشري في تفاعلاته التاريخية والاجتماعية والواقعية. والذي يقرأ ما وقع في فلسطين، وغزة على الخصوص بعد السابع من أكتوبر من تداعيات تلت حراك المقاومة الفلسطينية مع طوفان الأقصى، يدرك أن الوقائع والحقائق التي كانت قبل طوفان الأقصى، لن تكون هي هي بعده، مما يعني أننا ندخل مرحلة جديدة من الدورة التاريخية الإنسانية تفرض ربما الحديث عن الحاجة إلى إبدالات تجدد مقاربة الوضع العالمي، ومفاهيم الخطاب الإنساني في مستوياته المختلفة والمركبة المعقدة.

 السقوط القذر للخطاب القيمي الغربي:

 مؤدى فكرة ودعوى هذه المقالة ما يأتي:

يشكل طوفان الأقصى في غزة (الحدث والتداعيات)، لحظة فارقة في مسار تاريخ صراع الإرادات البشرية، مما يجعلنا نذهب إلى الحديث عن زمن ما “بعد غزة”، أو زمن ما “بعد طوفان الأقصى”، وهو ما يعني أن الحدث بصدد صناعة زمن آخر له إبدالاته ومفاهيمه ومرجعياته، تقوم أساسا على نقض الخطاب القيمي الغربي العولمي، والدعوة إلى إبدال جديد في مجال الخطاب القيمي لحقوق الإنسان.

تجد هذه الدعوة حجتها في ما يلي:

–    إن الخطاب القيمي الغربي بلغته، ومفاهيمه، ومرجعياته، هو صنيعة ظرفية تاريخية مثلت سلطة القوى الاستعمارية المنتصرة، مما يجعله معبرا عن إرادة القوي ضد إرادة المنهزم المنكسر.

–    إن الخطاب القيمي الغربي الحقوقي العولمي لا يراعي خصوصيات الشعوب والأمم، ولا يعبر أو يضمن تحقق حاجياتها الآنية والمستقبلية.

–    إن التنزيل التاريخي للخطاب القيمي الغربي يبرز أنه أداة للتحكم وفرض الرأي وتوجيه السياسات، وآلية للتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب، ووسيلة لابتزاز الأمم والاستيلاء على مقدراتها وخيراتها.

–    إن المرجعية الفلسفية للخطاب القيمي الغربي مادية بحثة، تجعله أسير البعد “الأرضي الدنيوي” فقط؛ من هنا لا خبر له عن “البعد الروحي الإيماني”، ولا كلام له عن “الغيب” و”الآخرة”.

لم تكشف غزة العزة، فقط عن انهيار كثير من الأساطير المخترقة للوعي الإنساني، من قبيل أسطورة الشعب اليهودي المختار، والدولة المظلومة المحتاجة إلى كيان ووطن، وأسطورة النموذج الديموقراطي الوحيد في الشرق الأوسط، وأسطورة الجيش الأخلاقي الذي لا ينهزم، وأساطير القوة العسكرية الاستخبارية التكنولوجية الفائقة، بل كشفت وفضحت هذا السقوط الأخلاقي الذريع للخطاب القيمي الغربي في ترجمة دعاويه فكرا وممارسة كلما تعلق الأمر بقضايا المستضعفين عموما، وخاصة إن كانوا عربا ومسلمين. ولعل الشاهد الأكبر الماثل المتعين الحقيقي هو ما وقع في غزة العزة، فلقد أظهر “طوفان الأقصى” تهاوي هذه الأساطير المؤسسة للخطاب القيمي الغربي، وسقوط نماذجه المتغنى بها، ومن ذلك الكشف عن تواطؤ النظام العالمي الجديد وعجز مؤسساته، وفضح الصمت المريب عن مجازر التقتيل والتدمير للكيان الصهيوني، وظهور التناقض الصارخ بين شعارات الدول العظمى في مجال حقوق الإنسان وسلوكاتها الداعمة المسوّية بين الجلاد والضحية، وهي دلائل إنما تبرز الهوي التاريخي والواقعي لخطاب حقوق الإنسان وشعاراته وفلسفته ومرجعيته.

 الإسلام حق الإنسان: نحو إبدال جديد لحقوق الإنسان

يدفعنا زمن ما قبل غزة طوفان الأقصى، وقد ضرب الخطاب القيمي الغربي العولمي حق الإنسان الفلسطيني (الفرد والجماعي، الطفل، والمرأة، والرجل، الحق في الحياة، وفي الغذاء، وفي السكن، وفي الأمن، وفي التعليم، وفي الصحة، وفي التنقل، وفي الدفاع عن النفس، وفي البيئة السليمة) في مقتل، إلى الدعوة إلى تجديد مقاربتنا للمسألة الحقوقية مقاربة جديدة، تجعلنا نخرج من أسر منظومة قيمية صيغت على أعين المستكبرين تاريخيا، وهوت هويا مدويا واقعيا.

إن زمن ما بعد “طوفان الأقصى” يجعلنا ندعو نحن -المسلمين- إلى أن نرجع إلى ديننا الإسلامي لنعرض على العالمين خطاب ربنا الكريم لبني الإنسان إلى معرفة ربه، والسلوك على منهاجه لعمارة أرضه، والاستعداد للقائه؛ ذلك أنه إن كانت غاية الغايات في الخطاب القيمي الحقوقي إسعاد الإنسان، وتحقيق الكرامة والحرية والعدل لضمان العيش السليم في العالم المشترك، فأي سعادة هذه وأي تكريم هذا الذي يصمت عن المعنى الوجودي الغائي للإنسان إن كان يكرم الإنسان هنا ليدخله النار هناك؟

إن الدعوة إلى أن يكون الإسلام الحق الجوهري والأساسي للإنسان، والذي عنه تنبع كل الحقوق الأخرى المادية والمعنوية تجد قوتها في ما يلي:

–    إن الإسلام هو دعوة جميع الأنبياء الأساسية في كل زمن ومكان، وعليه سيجد فيه المؤمنون كلهم في العالم ضالتهم المنشودة.

–     إن الإسلام هو الدين الخاتم الذي ارتضاه رب العالمين للعالمين، به أكمل الدين، وأتم النعمة اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة/3).

–    إن الإسلام هو الذي يُسْمِع الإنسانَ فطرة الإنسان، إسماعا متوازنا متكاملا، عن الدنيا هنا، وعن الآخرة هناك؛ فخبر معنى الإنسان، وغاية وجوده، وخبر الموت وما بعد الموت، وخبر الغيب، كلها أمور لن تشم لها عبيرا إلا في كتاب واحد هو القرآن الكريم: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون الذاريات/56، إنك ميت وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون الزمر/31، إن إلى ربك الرجعى العلق/8.

–    إن التاريخ الإسلامي الأصيل لمن يقرأ ويعتبر مليء بالمواقف الدالة ليس فقط على التقدير والتقديس الكلي لحقوق الإنسان، وإنما على التنزيل الراقي لترجمة هذا التقديس إلى السلوك العملي، ودعك من تاريخ وشعارات الحكام المسلمين المتسلطين على رقاب الأمة فما هم بالنموذج ولا المثال.

–    إن بطولات المقاومة، والصمود المبهر للحاضنة الشعبية في غزة وفلسطين العامرة كلها في ظل شروط انعدام تكافؤ القوة، والانتصار الباهر لرجالاتها، لمشهد يستحق من كل ذي لب لبيب أن يقف وقفة تأمل ليتساءل ويبحث عن السر الذي صنع رجالا يحبون الموت في سبيل الدين والأرض والعرض، وهي وقفة جديرة بمن يفقه جوهر التكوين الإنساني، وغايات المآلات، وإلا فما معنى الحياة؟ بل ولم الحياة والعيش أصلا؟ إن لم يكن وراء ذلك معنى وغاية في وجود آخر هناك عند رب العالمين.

إننا بحاجة إلى إعادة تشكيل عقل جديد يخترق الوعي الذي صنعته التربية الاستبدادية على مدى قرون الفتنة المتوالية بأدوات التدجين و”التنعيج”، وغذته الآلة الدعائية الاستعمارية بمعاول التحريف والتجريف، حتى نعيد قراءة التاريخ الإنساني قراءة متحررة من كل شروط الفتنة الضاغطة لنعي موطن الانكسارات والانزلاقات التي صنعت الهزيمة النفسية ونحلة الغالب وقابلية الاستعمار والاستحمار.

وإنه آن لهذه الغشاوة التي عمَّت على عيون البشرية، فرَانَ على قلبها وعقلها هذه الأطنان من الخرافات التي وَلَدَت لنا قديسات “القيم الكونية”، وأطلقت علينا أبخرة المفردات المعجمية لـ”المشترك الإنساني” و”السلام العالمي” و”التسامح” و”قبول الآخر” و”وعود التنمية المستدامة”، أن تنقشع ليتحرر وعينا الحقوقي القيمي من دوائر الانبهار المردد المكرر لأسطوانات لا يصدقها التاريخ، ولا يدعمها الواقع.

وإنه آن الأوان للصوت الإسلامي الحق أن يرتفع غير خجل ولا مستكين ليعرض على البشرية خطاب الوحي، وكلمة القرآن التي تقول للإنسان، كل الإنسان أنه ليس “شيئا” ولا “كيانا” لا معنى له، ولا رب له، ولا غاية له، ولا مصير له، وأن الدنيا ليست “أرحاما تدفع، وأرضا تبلع”: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم، ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون، وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين (المومنون/118).