زلزال الحوز.. تعليم منكوب

Cover Image for زلزال الحوز.. تعليم منكوب
نشر بتاريخ

لم يكد يقفل يوم الجمعة 8 شتنبر 2023 ساعته الأخيرة، حتى زلزلت الأرض بقوة تحت أقدام قاطنيها. زلزال بعثر الأوراق والتوقعات، زلزال شاء الله أن يضرب بطون الجبال والمرتفعات، زلزال خلف ضحايا في الأرواح وشرّد أفرادا وشتت تجمعات، زلزال أتى على مباني البسطاء بالهدم والتصدعات، زلزال سقى أفراد الأسر ورواد المدارس الآلام كؤوسا وجرعات.

نساء ورجال تعليم في ذمة الله

بعد أن رتَّبَت قاعة الدرس، وأعدّت المعلمة حورية وثائقها بعناية متأهبة لموسم دراسي جديد مع تلاميذ جدد، صلت صلاة العشاء ولملمت أشغالها مترقبة بزوغ يوم جديد، غير أن يد القدر أمضت على نهاية الأجل. نهاية أنست الساكنة فواجعهم لهول فراق معلمة ملأت المكان دفئا وعطفا.

لم تكن حورية الوحيدة التي رحلت عنا، بل رحلت فاطمة ونسرين رفقة آخرين وأخريات من رجال ونساء التعليم في هذا السفر المأساوي المفاجئ تاركين عيونا باكية وقلوبا حانية من ألم الفراق.

 باتت أسرة التعليم مكلومة، وتألم معها القاصي والداني، خاصة بعد أن كشف الستار عن بعض معاناتهم في فجاج وجيوب جبال الأطلس الشامخة محتسبين عند الله المثوبة والجزاء…

مدارس بدون تلاميذ

“تلاميذي كلهم ماتوا”؛ هكذا زفرت الأستاذة مليكة أول الأمر بعد الزلزال قبل أن تنفذ شحنة بطارية هاتفها، باعثة إلى العالم وصفا دقيقا عن هول الفاجعة… تكفي هذه الرسالة/الصدمة لتؤرخ لزلزال مدمر..

 لعل هذا حال كل نساء ورجال التعليم الذين عاشوا اللحظات العصيبة وقلوبهم على تلاميذهم قبل أنفسهم في علاقة حميمية تخالج وجدان من يدرس في البوادي والقرى النائية؛ هناك في السفوح والقمم الجبلية بعيدا عن ضجيج وصخب الحواضر.

مئات التلاميذ فارقوا الحياة في ظروف قاسية، ومئات آخرون مثخنون بالجراح بدنيا ونفسيا واجتماعيا. فهناك من لا يزال في المستشفى جراء كسور وجروح، وهناك من سكنه الخوف والهلع، وهناك من فقد أسرته وأحبابه، وهناك من لا مسكن له ولا مأوى..

وتستمر المعاناة مع تمدد آثار الكارثة في مختلف مناحي الحياة في بيئة وتضاريس وعرة تنضاف إلى اهتراء البنية التحتية نتيجة عقود من التهميش.

في هذا السياق، تم تهيئة بدائل مؤقتة للمدارس المهدمة أو المهددة لسلامة التلاميذ والمعلمين، غير أن آثار الصدمة لم تختف بعد، فزيادة على الجروح والكسور، نال الزلزال الكثير من نفسيات رواد المدارس، فجعل المشهد الدرامي لا يفارق مرآهم ومخيلاتهم، ناهيك عن التوجس وغياب الأمان الوجداني جراء الإفراط المرضي في توقع تكرار سيناريو الفاجعة في أي لحظة.

أمام هذه التأثرات المرضية، فإن ضحايا الزلزال في حاجة ماسة للدعم الطبي والمواكبة النفسية.

مطالب آنية

كشف الزلزال عن فائض في مؤشري التضامن والتلاحم بين المغاربة وهو ما جعل الضحايا يشعرون بالطمأنينة والانشراح رغم شدة الآلام والجراح. شكل ما راج على مواقع التواصل الاجتماعي وقودا ذكى هذه الروح، فانبرى الجميع، أفرادا وجماعات، يلبون نداء الواجب، كل حسب طاقته، بل وأحيانا أكثر من طاقته، فمن الناس من آثر المنكوبين على نفسه وعائلته، فنقص من قوتهم ليصب في قوت إخوانه، ومنهم من كان يدخر جزءا من ماله الخاص، فلا يدري ما يصنع الله به وبعائلته غدا، فلما وقع ما وقع استعمله كاملا غير مأسوف عليه، فهؤلاء أيضا إخوته وأبناؤهم في مقام أبنائه ولهم في ذمته حق شرعا وأخوة إنسانية، ناهيك عن فعل مختلف جمعيات المجتمع المدني والفاعلين فيه..

هب الجميع متناسين ما بينهم من تفاوتات مجالية وخلافات إديولوجية وصراعات سياسية.. الكل يعمل في أوراش مفتوحة كعائلة واحدة، أعادت للمنكوبين جزءا من روحهم، وأحيت فيهم الرغبة في الحياة من جديد، والتسليم لقضاء الله تعالى الذي يجعل مع كل منع عطاء رحمة ومنا منه عز وجل، ولم يغفل المتضامنون -طبعا- فئة الأطفال الهشة نفسيا، فحظوا باهتمام فاعلين في المجال.

غير أنه، ونحن على أبواب فصل الخريف وبعده الشتاء، يتساءل كل منا: إلى متى ستصمد هذه القوافل؟ وماذا باستطاعتها فعله أكثر مما فعلت، وهو جهد المقل؟ هل ستعوض الخيام قاعات الدرس؟ وإلى متى ستصمد؟ ولعل صوت إحدى نساء المناطق المنكوبة وهي تقول: عندنا الخير كله لكن أين نضعه؟ مع أول هطول للأمطار سيفسد كل شيء، نحن في حاجة لبيوت تأوينا وأطفالنا وتأوي هذه الخيرات.. لا يزال صداه يتردد في آذاننا ويبعث الهواجس في أنفسنا، وأولها هاجس التمدرس.

لذلك نقول إن العمل يجب أن لا يخفت، فلا يزال الوقت مبكرا جدا على الكلام عن تجاوز المحنة، فالدولة يجب أن تعتبر المنطقة المنكوبة أولوية توقف لأجلها المشاريع، وتوجه إليها كل المجهودات، وتحرك كل الوسائل المتاحة من أجل تجاوز المحنة في أقل وقت ممكن.. والمجتمع المدني أيضا يجب ألا تفتر همته وتضعفه الهموم الأخرى عن الاستمرار في إرسال قوافل المواساة العينية والنفسية، وأن يضعوا جميعا نصب أعينهم خاصة شريحة التلاميذ والأطفال عموما. لا ينبغي أن تتوقف المساعدات ويتوقف الدعم إن نحن أردنا أن نبني جسورا متينة مع مستقبل تشكل هذه الشريحة مادته وأطره، مع ما يجب أن يواكب ذلك من دعم للمعلم وتهييء للفضاءات المناسبة لتعليم جيد، وجعلها أم الأولويات.