زبدُ البحر.. حين يعلو الباطل ليزول

Cover Image for زبدُ البحر.. حين يعلو الباطل ليزول
نشر بتاريخ

تأمل البحر حين تثور أمواجه، كيف يعلو وجهه زبد أبيض لامع، يخطف الأبصار، لكنه خفيف لا وزن له، يتبدد بعد لحظات، وكأنه لم يكن شيئا.

تلك الصورة التي تلتقطها العين ليست سوى مرآة للحياة نفسها: صراع دائم بين الحق والباطل. فالباطل، حين يعلو، يملأ الآفاق صخبا وضجيجا في صورة خداعة لا ثقل لها ولا دوام. أما الحق فهادئ، يجري في الأرض كسيل صاف؛ لا يثير جلبة، لكنه يعمل في صمت وثبات، يبعث الحياة والسكينة في كل ما يمر عليه، وينتفع به الجميع.

يقول الله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد: 17]. إنها آية تكشف لنا سنة الله في الكون: أن كل خفيف مهما لمع، فمآله الزوال والاندثار. وهكذا هو الباطل؛ يزهو حين يضعف الإيمان، ويعلو حين يصمت أهل الحق، لكنه يظل زاهقا لا قرار له، لأن الله قضى بزواله ووعد بأن يحق الحق، فقال عز من قائل: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81].

لقد وضع الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ميزانا دقيقا للحق والباطل، وعلمنا كيف نميز بينهما، فالحق ثابت لا يتغير، باق وإن هزته الرياح وغشيته الأمواج، وأما الباطل فهو زائل مضمحل مهما طفا وظهر. الحق هو القرآن والسنة النبوية، هو الحجة، هو الهدى والنور، هو الثابت، وكل ما يخالفه، فهو ظلام وعدوان، فتن وسوء.

جاء في القرآن الكريم أيضا قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء: 18]. تُظهر هذه الصورة القرآنية المهيبة أن الله تعالى يلقي بالحق على الباطل فيغلبه ويبطله، مهما علا صوته، وامتد زمانه، واشتد سطوه. فالحق ثابت بأصله، قويٌّ بسلطانه، يهزم الباطل ويقضي عليه وإن بدا في لحظة من الزمن متعاظما.

وفي حياتنا اليومية، قد نرى الفساد والظلم ينتشران، لكن المؤمن يعلم أن الحق سيظهر ولو كره الكافرون، وأن الأمر يحتاج إلى جهاد وصبر، إلى تمحيص وامتحان وابتلاء واصطفاء.. يرى المؤمن أن الواقع مليء بأحداث يظهر فيها الباطل منتصرا منتشيا، قد تيأس القلوب أحيانا حينما يشتد ظلام الظلم والاستبداد ويطول المخاض، لكنه يدرك أن كل ما يموج أمام عينيه إنما هو توطئة لبزوغ نور الحق، مرحلة يميز فيها الله الخبيث من الطيب، فيعمل على المحافظة على يقينه بموعود الله تعالى غضا طريا، ويحافظ على كينونته مع الحق وأهله، ينصره ويجاهد لأجله حتى يظهره الله تعالى، عله عز وجل يدخله في زمرة من قال عنهم: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38].

فالثبات على الحق صبر وشجاعة، والابتعاد عن الباطل حكمة وبصيرة. والمؤمن لا يغتر بمظاهر الزيف، ولا ينخدع بالعدد ولا البهرجة، ولا يترك قلبه للظلام، بل يميز بين الجوهر والمظهر، ويستمر في نشر الخير والعمل الصالح، لأنه يعلم جيدا أن الله يدافع عن المؤمنين ويدفع عنهم عدوان الكفار وكيد الأشرار، وأن كل ما يصيبه في طريق الحق خير له ولأمته في الدنيا والآخرة، فهذا وعد وبشارة من الله عز وجل.

إن مشهد الزبد على البحر يحمل عبرا ودروسا عظيمة، من شأن التفكر فيها أن يعيننا على إدراك الحقائق وحسن تدبير حياتنا اليومية:

أولها: الثبات على الحق. فالباطل قد يعلو في المجتمعات، وتكثر الأصوات الصاخبة، لكن المؤمن يعلم أن الحق ثابت، وأن الصمود والمدافعة سلاحه حتى يأتي أمر الله تعالى.

ثانيا: التمييز بين الجوهر والمظهر. فكم من الأمور براقة على السطح لكنها فارغة من النفع، وكم من القلوب تبدو مهذبة لكنها خاوية من الإيمان. والمؤمن الحكيم ينظر إلى الجوهر، ويحرص على أن يكون عمله خالصا لله، لا كما يفعل الزبد الذي يذهب مع كل موجة.

ثالثا: العمل الصالح هو الباقي. كل عمل صالح ولو كان بسيطا، يبقى أثره، ويثمر نفعا، بينما كل ما كان رياء أو عبثا يزول كما يزول الزبد.

رابعا: الحكمة في مواجهة الفتن. الزبد يتلاشى بسرعة، وهكذا الفتن العابرة التي تثير البلبلة في القلوب. المؤمن يميز بين ما يبقى وما يزول، ويثبت على منهج الله، ويغرس الخير أينما كان وفي كل الظروف بتبصر وحكمة.

خامسا: الصبر على الحق. كما صبر البحر على هيجان الأمواج، يجب أن يصبر المؤمن على الحق، وألا ينساق وراء الزبد الزائف. الصبر سبيل الثبات، والثبات سبيل النفع المستمر.

سادسا: الاستمرارية في النفع. فالماء يبقى ليغذي الأرض والناس، وأعمالنا يجب أن تكون كالماء؛ ثابتة، مستمرة، تنفعنا وتنفع الناس، لا كالزبد الذي يذهب جفاء لا ينفع الناس.

يقول المولى عز وجل: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139]؛ دعوة من العلي العليم لعباده المؤمنين ألا يضعفوا ولا يحزنوا وهم يخوضون معارك الحق ضد الباطل، فبالإيمان نكون الأعلى بعون الله. ذلك أن الإحساس بالحزن والهوان إن أصاب المؤمن أضعفه وأصابه بالخوف والجبن والنكوص. فلنحرص على نصرة الحق في كل موقف، صغيرا كان أو كبيرا، بالعلم والعمل والنية الصافية، ولنترك أثرا يبقى، ولا نكون كالزبد يذهب جفاء مع الأمواج؛ مشهد عظيم يحكي لنا سنن الله في الحياة.

فلننظر في أنفسنا؛ هل نبحث عما يلمع ويختفي، أم نزرع ما يبقى وينفع؟

كل عمل صالح، كل ذكر لله، كل دعوة مخلصة، كل كلمة نفع، هي ماء ثابت يغذي الأرض يثمر ويزهر، بينما الباطل والرياء والمتاع الزائل زبد يذهب سريعا. فلنحرص على الثبات على الحق، والتمييز بين الجوهر والمظهر، والعمل الصالح، والصبر على الفتن، والدوام على نشر الخير. لتكن حياتنا كالماء الصافي يغذي ويثمر، يبقى أثره في الأرض وعلى الناس، ولا تكن كالزبد الذي يذهب جفاء .