زارتني عجوز بالمدرسة

Cover Image for زارتني عجوز بالمدرسة
نشر بتاريخ

وصلت للمدرسة وجدت هذه المرأة تنتظرني قد جاوزت الثمانين، فرحت بطلعتها واعتذرت لها لأنني وصلت متأخرا، وأشفقت هي من حالي لأنني أتعب كثيرا للوصول إلى القسم.

 ترى ما حاجتها؟؟؟ ولم جاءت تحمل قارورة لبن مخبأة عن أعين الأغيار…؟ خصّتني بها ونعم اللقاء كان. أظنها جاءت تبحث عن أذن صاغية تسمع صوتها وهمس وجدانها لتبوح بما يعتلج في خاطرها ونفسها.

 تبحث عن لحظة أنس بعد أن رحل كل من كانوا لها ملجأ وأنيسا تتبادل معهم قصصا وحكايات كانت هي البطلة وكانوا هم شاهدين على العصر.

 تبحث عن قلب ينبض بالحياة تستقي منه آخر أمل لها في دنيا الناس بعد أن أشرفت على الرحيل عند الذي لايضام ضيفه ولا يستوحش من غربة من نزل بساحة كرمه سبحانه عز وجل أكرم الكرماء.

تبحث عن استشارة في أمور تحير عقلها وتشغل بالها وتعبث بوجدانها وتؤرق مضجعها.

تبحث عن مفتاح للألغاز التي أضحت متاهة يطوف حولها سكان هذه الأرض. تبحث عن سويعة أنس وصدق وصفاء بلا غش ولا حسد ولا كدر.

تبحث عن نسمة وفاء للمسنة التي قضت زهرة عمرها وشبابها في كدح وبذل جهد وكفاح وتضحية لتعطي لهذا الوطن لبنة من لبنات البناء فمن يوفيها حقها ويرد لها حبة جميل.

تبحث عن فضاء أرحب من ذلك الحيز الضيق الذي تنبعث منه رائحة الملل والإهمال واللامبالاة ويضيق بتلك الذكريات المرة، التي شيّبت ذلك الشعر الحريري المتدلي على الأكتاف وأصبح اليوم شاحبا قصيرا متلاشيا بين جنبات رأس فاضت جوانبه حين لم يجد مكانا فارغا يودع فيه جديد الذكريات التي لم نعد في حاجة إليها.

تبحث عن كلمة صادقة دافئة في زمن برودة العواطف وجفاء القلوب التي لم تعد تنتج حليب المحبة والصفاء بل أصبحت بئرا معطلة وقصرا مشيدا.

تبحث عن وطن وعن هوية حين تاهت بها الشعارات وملأت شاشة التلفزة وجوها كالحة تحمل من كل نفاق وكذب ألوانا. وعوض أن يرسموا قوس قزح بهي الألوان رسموا قوس كذب فتان يحسبه الضمآن ماء، ألوانه باهتة وله امتداد نحو عالم البؤس والشقاء، رسمت معالمه يوم الاقتراع لانتخاب الرئيس الغائب على الدوام.

جاءت تبحث عن العدل والعناية والرعاية عند عمر الفاروق، حين كان يجوب الطرقات بالليل والنهار يمسح دمعة اليتيم، ويدفئ بيت عجوز أو أرملة غاب عنها المعيل.

جاءت تبحث عن بيت مال المسلمين لتأخذ حقها وتصون كرامتها عن ذل الحاجة وبؤس السؤال؛ بيت كان لنا فيه كل بغية وحاجة، واليوم أضحى أثرا بعد عين، وطللا يحكي حكاية للنسيان.

جاءت تبحث عن ابنٍ دار به الزمان وشغله البيت والزوجة والأولاد عن أم كان حضنها وسادة دافئة، وكان حليبها شرابا فيه شفاء وذا طعم خاص. كم سقته بدموعها حتى لا يذبل كوردة في بستان، وخصته بدعوات السحر حتى لا يتعثر ونام هو وما نامت هي، تحرسه من هوام قد تتسلل خلسة في جنح الظلام لتنال من فلذة كبد رطب تمشي على رموش عين ذبلت الآن وجف الدمع وما عاد سيالا.

جاءت تتبع خطوات زوج حين التفت ولم يعد يغريه ذاك العش، ولا تلك الحمامة الحاضنة لبيض أنجب فراخا زغبا حينا من الدهر، ثم كبرت الأجنحة وطار الصغار ومعهم غاب الأنس والحُب والحَبُّ والريحان.

أصبح العش قشا بلا دفء ولا حنان.

جاءت تبحث عن يوسف العفيف الجميل اللطيف حين همّت به الدواهي، وتزينت له العرائس على طبق الخيانة، فصان العهد وحفظ الود وآثر سجنا بعفة على قصر من غدر. فنال وسام (إنا نراك من المحسين). يا يوسف أفتنا في أمة نامت حتى سُمع شخيرها على الشطآن ونصبت تمثالا للشيطان ولم تسجد لآدم جنب ملائكة الرحمن.

جاءت تبحث عن المعتصم لتسائله عن عرض ضاع وشرف هان وجسد بيع بأبخس الأثمان. حاولت مراجعة النداء وامعتصماه!!! لكن الصوت يرجع لها صدى قويا منبعثا من فراغ بئر ضم رفاة أمة هانت وتاهت وياليتها حفرت قبرها ولبست كفنها وكتبت ماتت والسلام.

جاءت تبحث عن حمامة باضت، وعنكبوت خاطت، وصديق خفق قلبه بالغار وعلى الحبيب غار في ليلة كان الرداء (لاتحزن إن الله معنا) ليلة شع نورها، وطاب نسيمها، وفاح مسكها حين ذكر المصطفى نور الوجود وسيد الكائنات عليه من ربي أفضل الصلوات وأزكى التحيات وأطيب البركات.

عودي ياعجوز فقد نلت المراد، وبك تم القصد، واستنار الفؤاد، وطويت صفحة جيل مضى وعهد انقضى، ولتكتب قصة شمس ستشرق بين رموش عيون الأطلال، وتبني صرحا طال عنه الحديث وطال الانتظار، هو اليوم على الأبواب يفرح به ساكن الأرض وملكوت السماء.