زاد الخطيب.. رؤية منهاجية (2/3)

Cover Image for زاد الخطيب.. رؤية منهاجية (2/3)
نشر بتاريخ

المحور الثاني: الخطاب المنهاجي

سبقت الإشارة إلى أن الخطاب رسالة ذات مضمون وأسلوب وغاية، فما هو مضمون الخطاب المنهاجي، وما هي أساليبه وغاياته؟

1- مضمون الخطاب المنهاجي

خطاب تزكية: الظاهر والباطن. يقول الإمام المجدد «المطلوب لغد الإسلام عالم واعظ معلم مرب خاشع لله، منيب خبير بما تجيش به نفوس عباد الله، وبما هو حشو أدمغتهم» 1.

خطاب رحمة وحكمة: يقول الإمام المجدد رحمه الله: «إن الدعوة إلى الله رحمة تحنو، وحكمة تلتمس التي هي أحسن لإنزال المستعلي المستكبر بمقتنيات ثقافته إلى تواضع ودهشة وحيرة» 2.

خطاب مرتبط بالأصل، منفتح على العصر: يجمع بين تراث السلف ومعارف الخلف يقول الإمام: «…فما نطلب التوسع في علوم الناس إلا لنتزود بالمادة الفكرية نحمل عليها إلى الناس –وفي ضمنهم المثقفون المغربون- روح الإسلام وروحه» 3.

خطاب الوعي: «نبسط ما صح عندنا بالمسلمة الفطرية، والعقل العاقل عن الله، والقلب السليم، والمدخل التربوي، والكيف الإسلامي، والمحضن الإيماني، ويهدي الله سبحانه من يشاء» 4.

خطاب الإبداع والإتباع: النص والمصلحة. «افعلوا ذلك وتلطفوا بالواقف ينظر إلى الوراء حتى يستوعب حقائق عصره، يبصرها على مصباح القرآن لا على سرج انطفأت. وحتى تتكيف عقلية فقيه يملي من كراسة مشايخه، أليف مربع مريح، أو طريح فراش المنهك الجريح» 5.

خطاب الإعذار: فهم وتفهم وتفاهم، فقه الائتلاف وأدب الاختلاف. يقول الإمام: «الجوهر هو ما يجمعنا مع إخواننا علماء المسلمين، في الضمير اليوم صوتُ تعاطف مكبوت، وغدا يبوح الأخ لأخيه بالصفاء والوفاء» 6. «إخواننا علماء الدين وفقهاء المنابر وعمار المساجد هم عدتنا بعد الله غدا».

خطاب التوازن: ترغيب وترهيب، الدنيا والآخرة، خوف ورجاء، ظاهر وباطن، لا تهويل ولا تهوين، إنصاف واعتدال، واقعية ومثالية، علم وعدل…

خطاب النهضة: الإصلاح الكلي والتغيير الجزئي، الخلاص الفردي والخلاص الجماعي.

2- أساليب الخطاب المنهاجي (منهج الخطاب)

▪         التركيز على ما يجمع الشمل.

▪         توظيف الأحداث لصناعة رأي عام فاضل.

▪         التركيز على القضايا الكبرى وتوحيد الخطاب في القضايا الكبرى.

▪         ترتيب الأوليات.

▪         اقتراح بدائل وحلول (النفعية).

▪         التيسير لا التعسير

▪         الترويح ببعض الطرف.

▪         الإحسان قبل البيان.

▪         القدوة قبل الدعوة.

▪         الترغيب قبل الترهيب.

▪         تربية لا تعرية. 

3- غايات الخطاب

أولا: الإسماع

ثانيا: الإقناع

ثالثا: الإتباع

هذا إجمال وبشيء من التفصيل أقول:

1-   تحريك الإيمان في نفوس الشعوب والجماهير المسلمة، وإثارة الشعور الديني. 

2-   صيانة الحقائق الدينية والمفاهيم الإسلامية من التحريف. 

3-   تقوية الصلة الروحية والعاطفية والعقلية بالنبي صلى الله عليه وسلم. 

4-   إعادة الثقة في نفوس الطبقة المثقفة.

5-   تقوية عاطفة الامتثال لأمر الله ونهيه. 

6-   تنمية الوعي الصحيح وتربيته. 

7-   الفهم للحقائق والقضايا الكبرى. 

8-   التمييز بين الصديق والعدو. 

9-   عدم الانخداع بالشعارات والمظاهر. 

10- التذكير بالآخرة ولقاء الله.

 في كلمة: حماية الإسلام من التحريف، والمسلمين من الانحراف سواء الواقع أو المتوقع.

المحور الثالث: الخطيب المنهاجي

1- صفات ذاتية يتشبع بها الخطيب

أولا:  التحقق باليقين

وهو شعاره وديثاره، وأصل الفرح والفرج والروح، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه “الفرح والروح في اليقين والرضى، والغم والحزن في الشك والسخط”.

لذلك نلح أن يكون الخطيب على يقين بنفع قوله، وصلاحية ما يدعو الناس إليه.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: “خير ما ألقي في القلب اليقين، وخير الغنى غنى النفس، وخير العلم ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، فلا تملوا الناس ولا تسأموهم، فإن لكل نفس نشاطا وإقبالا، وإن لها سآمة وإدبارا”.

 واليقين درجات:

1-   ما ثبت به الإيمان وانتفى به الريب.

2-   ما يقوى به الإيمان من البراهين العقلية النظرية.

3-   ما نزلت به السكينة في القلوب.

ومن مقتضياته: صدق خطابه، وصيانته، وإعطاؤه قدره بإخلاصه وحسن خلقه وجمال سمته وحسن مذاكرته، ولطف مخاطبته وقبوله بين الناس.

ثانيا: التحقق بحسن الخلق

 وهو ركن البعثة الأصيل، روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طُعمة. أي في وجه المكسب”

فالخلق الحسن أفضل أرزاق الله على الإطلاق، كما قيل، وهو أيضا أشرف ما تزين به الإنسان، وبه يسع جميع الناس، وبه يعظم شرفه عندهم، وتثبت خيريته بينهم، وبه ينال إكرام الله بود الخلق.

ثالثا: أن يكون قاصدا في الكلمة المرشدة

وذلك موضوعا وزمانا وحالا وأسلوبا مراعيا في ذلك الحاجة الملحوظة بالمخالطة وما انتهى إلى علمه من أحوال الناس، مع الحرص على تجنب الإطالة، والنأي عن التشدق والتفيهق. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «… ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه».

رابعا: التركيز على الإيجابية

وذلك بترغيب الناس في العمل وفتح باب الأمل، وتجنب العدمية والتيئيس من إمكانية الصلاح والإصلاح، وتقريب الفضائل الإنسانية، والمبادئ الإسلامية للأجيال المعاصرة والصاعدة على اختلاف حيثياتهم وأعمارهم.

2- سمات أساسية يصدر عنها حملة الخطاب

أولا: التكامل بين العاطفة والعلم والفكر

  • فوظيفة العاطفة توليد شيء من الطاقة في نفوس المدعوين وإثارة حماسهم وفضولهم وتعاطفهم مع القضية.
  • والعلم هو صلب الرسالة الدعوية، معلومة صحيحة موثقة.
  • الفكر أداة تحليل وتعليل وتركيب، ووظيفته بناء عقلية منهجية قادرة على النقد والتجاوز واستشراف المستقبل، والانفكاك من أسر النمطية.

ثانيا: التوازن والتنوع

وذلك بمراعاة ما يلي:

  • حاجات الفرد: قلبه وعقله ونفسه، ومتطلبات الدنيا والآخرة.
  • حاجات الناس المستهدفين (الجمهور)، واتساع الهوة الثقافية بينهم، وهم أطياف وأصناف كما سنرى.
  • لغة الخطاب، وأقترح هنا ما يلي كحل مرحلي:

. يمكن استخدام فصحى قريبة خالية من المصطلحات والكلمات الغريبة قدر الإمكان، مشحونة بما يناسب من ألفاظ السنة والقرآن، (أو دارجة قريبة من الفصحى).

. الانسجام بين الألفاظ والأساليب المستخدمة وبين المضامين والمعاني المعبر عنها.

. من الإساءة للمعاني الراقية أن يعبر عنها بلغة هابطة، وأمثلة تقترب من البداهة.

. اللغة المناسبة هي اللغة الموحية المرفرفة نظيفة الألفاظ. التي لا تسجن المعاني، ولا تقيد الأفكار.

ثالثا: الاندماج الشعوري بين الخطيب وسامعيه

ويظهر ذلك باستعمال صيغ المشاركة بدل الصيغ الدالة على الذات -إن لم تكن هناك ضرورة- فالخطيب ليس في جبهة مضادة للمستمع.

رابعا: الرفق والكياسة

  • دعاة لا قضاة.
  • دعاة لا ولاة.
  • دعاة لا قساة.
  • هداة لا جناة.

3- زاد الخطيب

الزاد لغة طعام يتخذ للسفر، واصطلاحا هو ما يكتسبه الإنسان من خير أو شر. أي ما يحمله الإنسان ليستعين به على شأنه. ولا شك أن الخطيب أحوج ما يكون إلى زاد وفير من العلم والتربية والأخلاق، لتوقف نجاح مهمته الدعوية عليه.

وهذا بيان مقتضب:

إشراقات منهاجية وتنبيهات

·         «إن كنا يقتلنا الهزال المادي والمعنوي والفكري فلن يُسمع منا خطاب»

·         «تعظ الكلمة الصادقة من قلب خاشع»

·         «لا تعظ الكلمات المنمقات، تمر فصيحة من فوق الرؤوس لا تسلك إلى القلوب، ولا تفتح بابا للتوبة من الذنوب»

·         «واعظ لا يتعظ عليم اللسان أنى تؤثر موعظته»

·         «نزيل بالإقناع الجدلي العقلي ما ثمَ من ترسبات لنفتح أمام الفطرة طريقا إلى النور، نخاطب وجدان عامة الناس بعد أن نبين تهافت خاصة أصحاب العقلانية الأمية»

·         الخير إن لم يلزمك لن يتعداك.

·         الناس في الغالب يسمعون بك لا لك.

·         سياسة العلم أعوص من إتقانه.

·         نحرص على تجويد المعلوم قبل تكثيره.

·         كن مخلصا تكن فصيحا.

·         ترك العلم كالهجوم عليه دون مُكنة يؤديان إلى فساد الرؤية.

4- مصادر سلطة الخطيب

تتعدد المصادر التي يستقي منها الخطيب سلطته المعنوية على السامعين، وتختلف درجة حضورها تبعا لطبيعة المناسبة والظروف المحيطة بها، وكذا نوعية الحضور وحيثياتهم الاجتماعية والثقافية.

وأهم هذه المصادر: شخصية الخطيب (وظيفته الاجتماعية، شهادته العلمية…)، بيانه (لغة، منطق…)، الجهة التي يتكلم باسمها (مركز علمي، مؤسسة رسمية، مؤسسة شعبية..) وغيرها.

لكن إن استطعت أن تقنع الناس بما حباك الله من زاد علمي وتربوي وأخلاقي، وحسن سريرتك وصفاء طويتك أنك تتحدث بالإسلام للإسلام فستكون بالخطاب أجدر، وكلامك أنفع.

سئل محمود القصار رحمه الله: ما بال كلام السلف الصالح أنفع من كلامنا؟ فأجاب: كان السلف الصالح يتكلمون لعز الإسلام، ورضا الرحمان، ونجاة النفوس، ونحن نتكلم لعز النفوس، ورضا الناس، وطلب الدنيا.

شتان بين كلام وكلام..!!


[1] الرسالة العلمية فقرة 105
[2] نفسه، فقرة 177.
[3] نفسه، فقرة 159.
[4] نفسه، فقرة: 67.
[5] نفسه، فقرة: 218.
[6] نفسه، فقرة 225.