زاد الخطيب.. رؤية منهاجية (1/3)

Cover Image for زاد الخطيب.. رؤية منهاجية (1/3)
نشر بتاريخ

مقدمة: (في الموجبات)

معلوم أن الأقوال والأفعال هي التجليات الخارجية للوجود الإنساني، وبينهما ارتباط وثيق، لم تقولون ما لا تفعلون، فوظيفة الأقوال المحمودة الدلالة والتحفيز والتمكين لأفضل الأحوال وأصلح الأعمال، وهي مشروطة بالخير باعثا ووسيلة وغاية، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، وعن هذا الخير حكمةً وفصلَ خطابٍ نبحث، أي الكلام عندما ينتظم خطابا أو رسالة ذات مضمون وأسلوب وغاية.

أ –  التفكير قبل التعبير

قيل: استعينوا بالصمت على الكلام، لأنه بالصمت تتولد الفكرة، وينسبون لعيسى عليه السلام القول: “كل صمت في غير فكرة فهو سهو، وكل كلام في غير حكمة فهو لغو، وكل نظر في غير عبرة فهو لهو”.

 لذلك يلزم كل مريد للإصلاح، بل كل عملية تغييرية وحركة إصلاحية، معالجة ثلاثة أسئلة كبرى:

· سؤال التفكير: كيف نفكر؟ عقل الإصلاح

· سؤال التعبير: كيف نعبر؟ خطاب الإصلاح

· سؤال التدبير: كيف ندبر؟ فن الإصلاح

فالتفكير إذن يسبق التعبير والتدبير، كما أن اللسان وراء القلب والعقل، يعني أسبقية الاهتمام “بماذا أقول؟” قبل الاعتناء ب: “كيف أقول؟”.

ب – واقع الخطاب والخطباء

  • نعيش طوفان أقوال وفيضان خطابات تتسم في الغالب بقلة الصدق وضعف القصد.
  • خطابات معظمها لا يعكس صورة الإسلام المشرقة، وإنما هو انعكاس لواقع المسلمين المتخلف، لأنه: ضعيف عند البعض، متطرف عند آخرين، ضيق عند الأغلبية.
  • هشاشة المحتوى وشيوع الأمية الدينية، خطيب ولكنه ليس بفقيه، ومما كان ينذر به الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كثرة الخطباء وقلة الفقهاء، وفي هذا يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: «المطلوب لغد الإسلام عالم واعظ..» 1
  • الارتجالية والعفوية الناتجة عن نقص التخطيط، وضيق الأفق. «تربون وتعظون وتعلمون وتحفظون وتتعهدون ناظرين بثقة في الله الغني الحميد لمستقبل الخلافة على منهاج النبوة» 2.
  • كثرة الخلافات والاختلافات غير المعتبرة والتحاملية.
  • غياب الإبداع، في الساحة حيث تجد وعاظا يتكاثرون يوما بعد يوم أغلبهم يدورون حيث دار المال والسلطان.

«كان المجتمع الإسلامي في أول أمره كالمرجل يغلي فتنبعث منه الأفكار الجديدة والحركة الدافقة، ولكن السلاطين أخمدوا أنفاسه، وخدروا عقول الناس بالمواعظ الرنانة التي من شأنها تبرير عمل الحاكم، ووضع اللوم على المحكوم، يدعي أنه من حق الحاكم أن يقسو وليس من حق المحكوم أن يشكو»، ويحصل هذا عندما يفقد الخطيب الضمير فلم يعد يستحي من الإسلام الذي يدعي الانتساب إليه، ولا يخجل من الواقع الذي يعيش فيه.

ج – الخطاب وسيلة لتحقيق مقصد الدعوة.

معلوم في الثقافة الإسلامية أن للوسائل حكم المقاصد، وأن الوسائل إذا لم تفض إلى مقاصدها سقط اعتبارها، ويُغتفر في الوسائل ما لا يُغتفر في المقاصد، فالخطاب الذي لا تحكمه إرادة الإصلاح إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت،  والذي لا يستهدف الدعوة إلى الله، ولا ينضبط بمقتضياتها يسقط اعتباره ويفقد قيمته.

ولما كانت الدعوة مهمة الأنبياء عليهم السلام ومن تبعهم على بصيرة، تعين الاعتناء بالخطاب باعتباره وسيلة ناجعة ملازمة لها.

ولإغفال المقاصد في هذا الباب آثار وخيمة، أذكر منها:

  • إن الداعية إذا لم يضع نصب عينيه مقاصد الدعوة إلى الله قد يسقط في مزالق كثيرة، كالارتجال والعفوية وعدم النظر إلى مآلات ما يفعل.
  • من الدعاة من يلتزم منهج “قل كلمتك وامض” ولا يتخطاه إلى منهج “قل كلمتك واتبعها”.
  • إن إهمال النظر المقاصدي قد يكون سببا في ابتلاء بعض الدعاة بكثرة القول وقلة العمل، والمبالغة في الحديث عن الماضي وأمجاده، والتألم من الحاضر، والتوجس من المستقبل، وهذا من شأنه أن ينال من حيوية الكلام ونفاذيته إلى قلوب الشباب خاصة.  
  • إن من الدعاة من لا تخرج جهودهم –على كثرتها وتنوعها- عن دائرة الوسائل، وكأن الدعوة إلى الله مجرد حركات ومظاهر فقط، وتلبية لرغبة عائلة المستمعين من الكلام كيف ما كان ذلك الكلام، ضجيج ولا طحن.

د- ضرورة الاعتناء بالوعظ والخطابة.

يقول الأستاذ فتح الله أرسلان مبينا ضرورة الاشتغال بهذا الفن: «واليوم وقد اعترى الأمة ما اعتراها من انحلال خلقي، وخواء روحي، وانحطاط فكري، ففقدت صفات العزة والكرامة، والرجولة والشهامة، أصبح لزاما على جند الله الذين انضموا إلى ركب الدعوة للعمل على استئناف الحياة الإسلامية من جديد، أن يتقنوا قواعد الوعظ والإرشاد، وأن يتزودوا بما يتطلبه من زاد، لتكون كلمتهم مسموعة، ودعوتهم مقبولة محبوبة» ثم قال: “وهذا لا يحسنه إلا القليل”.

المحور الأول: مفاهيم

1- التفكير المنهاجي: التعريف – الشروط – الخصائص – القضايا – المظان

أ- تعريف التفكير المنهاجي

  • هو حركة قلبية عارمة شاملة، مصدرها الوحي والكون، وموضوعها الإنسان، وغايتها اقتحام العقبة إلى الله، ووسيلتها: التفكر لقراءة العالم المنظور والتدبر لقراءة الكتاب المسطور.
  • هو فعل العقل المتحرر من ثقل الفتنة، ومن تأثير الجاهلية.
  • وعمليا يمكننا القول إنه: حركة العقل المؤمن التدبرية من أجل تحصيل العلم النافع، والعمل الرافع.

• تنبيه

قد يكون المفكرون تحت وطأة الفتنة أو ثقل الجاهلية مسلمين أو إسلاميين، ولكن لم يتخلصوا بعد على مستوى الموجِّهات -بوعي أو بغير وعي- من الموروث التاريخي، فينتجون فكرا وخطابا هجينا، ملفقا، غير أصيل.

ب- شروط التفكير المنهاجي

1.     لا يكون تفكيرنا منهاجيا ما لم تكن شخصيتنا إيمانية.

2.     لا يكون تفكيرنا منهاجيا ما لم تكن مفاهيمنا قرآنية نبوية.

3.     لا يكون تفكيرنا منهاجيا ما لم يكن اجتهادنا مقاصديا.

4.     لا يكون تفكيرنا منهاجيا ما لم يكن مؤسسا على وعي تاريخي.

ج- خصائص التفكير المنهاجي

  • الوضوح  – الشمولية  – الأصالة  – الإجرائية  – المستقبلية   
  • قضية الأمة وقد ابتليت بداء الاستبداد والمطلب الأساس هو الشورى.
  • قضية المستضعفين ومعاناتهم مع الظلم (اجتماعي، اقتصادي…) والمطلب الأساس هو العدل.
  • قضية الإنسان والغفلة عن يوم الحساب وما ترتب على ذلك، والمطلب الأساس هو الإحسان.

د- قضايا التفكير المنهاجي 

ه- مظان التفكير المنهاجي

  • صريح القرآن
  • صحيح السنة
  • ثابت الإجماع
  • ما تلقته الأمة بالقبول
  • ما ألفه الإمام المجدد رحمه الله
  • ما أنتجه خريجو مدرسة العدل والإحسان وفق أصول المدرسة
  • الحكمة متى ظهرت، وحيثما وُجدت.

2- مفهوم الخطابة والوعظ

الخطابة: هي فن أو علم الخطاب، والخطاب: في معاجم اللغة أحد مصدري فعل خاطب، وهو يدل على توجيه الكلام لمن يفهمه، وقد نقل علماء المسلمين الأوائل الخطاب من الدلالة على الحدث المجرد من الزمن إلى الدلالة على الاسمية، فأصبح في عرف الأصوليين يدل على ما خوطب به وهو الكلام أو الكتابة، ومع مرور الزمن وتطور الوسائل اتسع المفهوم وانفتح على آفاق رحبة، فصارت الشاشة خطابا، والصورة خطابا، والواقع الافتراضي خطابا، ولو ذهبنا بعيدا لوجدنا الجسد وتمظهراته الخارجية خطابا، بل والسكوت كما السكون خطابا.

الخطاب في القرآن الكريم

وردت مفردة الخطاب في القرآن الكريم في خمسة مواضع تتلاقى دلالاتها في الكلام والبيان والمراجعة وقوة البلاغ، وأما في الاصطلاح فهو لفظ تنازعته حقول معرفية شتى فتعددت بذلك تعاريفه واختلفت، ومن أجمع التعريفات: “أنه كل نطق أو كتابة تحمل وجهة نظر محددة من المتكلم أو الكاتب، وتفترض فيه التأثير على السامع أو القارئ مع الأخذ بعين الاعتبار مجملا للظروف والممارسات التي تم فيها”.

باعتبار مقول المخاطِب

هو بناء من الأفكار والأحاسيس والمشاعر، فهو من هذه الزاوية يعكس مدى قدرة صاحبه على البناء واحترامه لقواعده، حتى يؤدي مهمة الإخبار والإقناع.

باعتباره مقروء القارئ

(مقول القول)، وهو ذلك البناء نفسه وقد أصبح موضوعا لإعادة البناء، أي نصا للقراءة.

ومن جهة أخرى لما كان الخطاب علاقة اجتماعية تربط بين أفراد المجتمع الواحد، أو المجتمعات وجب أن يتحدد هذا الخطاب بعنصرين أساسيين هما:

أ- النسق اللغوي.

ب- شروط إنتاج الخطاب: المخاطِب أو المرسل، المخاطَب أو المرسل إليه، الخطاب أو الرسالة ثم الناقل الرابط أو المبلِغ.

للخطاب معنيان: واسع وضيق

–    المعنى الواسع: الخطاب هو أقرب ما يكون إلى رؤى وفكر واجتهادات المسلمين داخل الزمان والمكان.

–    المعنى الضيق: الخطاب يتعلق بآليات نقل الفكر الإسلامي وتكييفه، ومعالجته لغويا ودعويا وإعلاميا لتوصيله إلى الجماهير.

ومن وسائله: خطبة الجمعة، درس ديني، صحيفة، برنامج تلفزيوني، موقع على الأنترنت.

وخلاصة الأمر: الخطاب رسالة ذات مضمون، دلالة وأسلوب وغاية.

وأما الوعظ:

لغة: التخويف، والتنبيه والتذكير، واصطلاحا «التذكير بالخير وما يرقق القلب» قاله الخليل.

ونجد للأستاذ فتح الله أرسلان تعريفا دعويا وتربويا، يقول: «الوعظ هو إيقاظ القلوب من الغفلة، وإنقاذ البصائر من الحيرة، وإحياء النفوس من الموت والجهالة» انظر كتيب له تحت عنوان: «الموعظة الحسنة».

3- أهمية الخطابة والوعظ، وضرورة إتقانهما

الخطاب الإسلامي هو من أخطر القضايا في حياة المسلمين اليوم، ذلك أن شيوع الأمية الدينية، والغزو الثقافي، والأزمات الاقتصادية الطاحنة، واستعار الفتن الصارفة، وكثرة العقبات والصوارف، جعل معظم المسلمين المعاصرين يبتعدون عن ينابيع الإسلام الصافية، ولم يبق لهم من صلة بحقائق الدين إلا الخطاب الإسلامي الذي يصله من خلال خطبة الجمعة، أو درس ديني، أو موعظة في مناسبة، وسائل الإعلام…

  • ومن أعظم ما يدل على أهميته أن جعله الله تعالى وظيفة أنبيائه ورسله وأصفيائه، وجعل بعض كتبه المنزلة مواعظ وعبرا، (كالزبور مثلا)، ووصف القرآن في كثير من الآيات أنه موعظة.
  • ومن ذلك اعتناء علماء الأمة بالخطابة والوعظ، (الحسن البصري، عبد القادر الجيلاني..).

يقول الأستاذ فتح الله أرسلان: «واليوم وقد اعترى الأمة ما اعتراها من انحلال خلقي، وخواء روحي، وانحطاط فكري، ففقدت صفات العزة والكرامة، والرجولة والشهامة، أصبح لزاما على جند الله الذين انضموا إلى ركب الدعوة للعمل على استئناف الحياة الإسلامية من جديد، أن يتقنوا قواعد الوعظ والإرشاد، وأن يتزودوا بما يتطلبه من زاد، لتكون كلمتهم مسموعة، ودعوتهم مقبولة محبوبة» واستدرك قائلا: وهذا لا يحسنه إلا القليل.


[1] الرسالة العلمية: 105.
[2] نفسه.