التعبد إلى الله بنيّة إصلاح الأبناء هو أسمى ما يمكن أن يقدّمه الوالدان لذريتهما، فالإصلاح الحقيقي يبدأ من الداخل، من تربية النفس وتقويمها، قبل أن يكون توجيهًا مباشرًا للأبناء. حينما يتقرب الإنسان إلى ربه بنية أن تكون عبادته سببًا في صلاح ذريته، فإنه يضع أساسًا متينًا لتربية قلوب أبنائه قبل تقويم سلوكهم. ومع اقتراب شهر رمضان المبارك، تهبّ على القلوب نفحات الرحمة والمغفرة، فيكون اغتنام هذه الفرصة العظيمة بالزيادة في التعبد والإلحاح في الدعاء من أعظم وسائل إصلاح الأبناء، حيث تتضاعف البركات، وتتفتح أبواب الاستجابة.
التربية بالقدوة
الأبناء يتأثرون بحال والديهم أكثر من تأثرهم بأقوالهم، فحين يكون القلب ممتلئًا بالإيمان، تنعكس أنواره على البيت بأكمله. زكريا عليه السلام حينما دعا الله أن يهب له ذرية طيبة، لم يكن دعاؤه مجرد رغبة في الولد، بل كان نابعًا من إدراكه أن البركة الحقيقية تبدأ من رحمة الله: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 38]، فوهبه الله يحيى، نبيًا صالحًا، جزاءً لدعائه المخلص. وفي رمضان، حيث تصفد الشياطين وتتهيأ القلوب للخير، يصبح الدعاء للأبناء من أقوى أسباب الهداية والصلاح.
الصلاة.. أعظم ما يورّثه الوالدان
الصلاة أعظم ما يحيي القلب ويربطه بالله عز وجل، وحين يحرص الوالدان على أدائها بخشوع، فإن الأبناء يشبّون وهم يرونها جزءًا لا يتجزأ من الحياة، لا مجرد عادة. وقد أمر الله نبيه قائلًا: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه: 132]. وفي رمضان، حيث يُقبلُ الناس على إتمام الصلوات المفروضة وإتباعها بالنوافل وصلاة التراويح والتهجد، فإن الحرص على أدائها مع الأبناء في أجواء روحانية يعزز أثرها التربوي، إذ يرتبط الابن بالمسجد ويرى والديه قدوة في الالتزام بها.
ذكر ابن رجب أن سعيد بن المسيب قال لابنه: “لأزيدن في صلاتي من أجلك؛ رجاء أن أُحفظ فيك” ثم تلا هذه الآية: وكان أبوهما صالحاً [الكهف: 82].
الاستغفار.. نور يملأ البيوت
وكما أن الصلاة تصلح القلوب وتقرّب من الله، فإن الاستغفار يفتح أبواب الرحمة، وليس فقط للوالدين، بل وللأبناء كذلك. نوح عليه السلام ربط بين الاستغفار وبين البركات التي تشمل الذرية، فقال لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12].
في هذه الآية دليل على أن الاستغفار يُستنزل به الرزق، فنوح أمرهم بالاستغفار؛ الذي هو الإقلاع عن المعاصي وطلب المغفرة من الله على الذنوب السابقة، وهذا ربط بين القيم الإيمانية والقيم المادية، فما كان للحياة المادية أن تسير في عزلة عن هذه القيم الأصيلة، وما كان لها أن تؤتي ثمارها من دونها” 1.
“والربُّ هو المربي جميع عباده بالتدبير وأصناف النعم، وأخص من هذا: تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم، ولهذا كثر دعائهم له بهذا الاسم الجليل؛ لأنهم يطلبون منه التربية الخاصة” 2. والربُّ في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام، وفيه معنى الحنو والرعاية والعطف. ونوح عليه السلام في سيرته كان مستحضراً ومتعبداً وداعياً لله بهذا الاسم، فعلى سبيل المثال نجد ذلك في قول الله تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا [نوح: 5].
وفي رمضان، حيث أُمرنا بالإكثار من الاستغفار، يكون ذلك بابًا لتطهير القلوب وفتح أبواب الرزق والبركة للأبناء.
وفي هذه الآية إشارة إلى أن الاستغفار سبب في نزول الرزق والبركة، ليس فقط ماديًا، بل في الأبناء أيضًا، إذ إن صلاح الذرية جزء من العطايا الإلهية. وهذا يربط بين القيم الإيمانية والقيم الحياتية، فلا يمكن أن تزدهر الحياة المادية بمعزل عن القيم الروحية العميقة.
الصدقة.. بركة تحيط الأبناء
الصدقة من العبادات التي لها تأثير عجيب على تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق، فكما تطهّر المال، فإنها تطهّر القلوب. قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة: 103]. وقد ورد عن النبي ﷺ أنه قال: “داووا مرضاكم بالصدقة” 3. وإن كانت الصدقة تداوي الأبدان، فإنها بلا شك تداوي أخلاق الأبناء، لأنها تستجلب الرحمة الإلهية التي تتنزل على البيت كله.
ورمضان هو شهر الجود والعطاء، فالتوسّع في الصدقات فيه ليس مجرد إحسان إلى الآخرين، بل هو وسيلة لحماية الأبناء من الفتن، وتزكية نفوسهم وتقويم أخلاقهم واستنزال رحمات الله عليهم وحفظه لهم.
الدعاء.. مفتاح صلاح الأبناء
ولعل أعظم ما يمكن أن يقدّمه الوالدان لأبنائهما هو الدعاء، فالدعاء ليس مجرد طلب، بل هو تعبير عن العبودية الكاملة لله، وهو وسيلة ربانية لتغيير الأقدار. إبراهيم عليه السلام، حينما دعا قائلًا: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم: 40]، لم يكن يطلب مجرد التزام أبنائه بالصلاة، بل كان يسأل لهم الثبات عليها، لأنها مفتاح كل صلاح.
وفي رمضان، حيث تُرجى ليلة القدر، يكون الدعاء للأبناء فرصة ومنحة ربانية، إذ إن الدعاء فيها خير من ألف شهر.
التربية ليست أقوالًا بل حياة
التربية الحقيقية ليست كلمات تُقال، بل هي أن يكون المربي نفسه متصلًا بالله، لأن القلوب حين تمتلئ بالنور، تشع أثرها دون حاجة إلى كثير من الكلام. وحين يعبد الإنسان ربه بنية أن يكون ذلك سببًا في صلاح أبنائه، فإن بركة هذه العبادات تمتد فتشملهم، لأن الله وعد بأن يحفظ عباده الصالحين، بل ويحفظ بهم من حولهم، كما جاء عن بعض السلف: قال أبو نعيم، بأن ابن المنكدر، قال: “إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده، وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر” 4. ونقل عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: “ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه” 5.
فليكن شهر رمضان نقطة تحول في العلاقة مع الله، ولتكن العبادة فيه وسيلة لإصلاح النفس والأبناء، حتى يمتد أثرها إلى ما بعد الشهر المبارك، فيكون رمضان بداية لتربية إيمانية حقيقية تدوم بإذن الله.