يحل علينا شهر رمضان المبارك بأنواره وأسراره وكراماته؛ فيهذب القلوب ويؤلفها ويجمع الأسر على الخير والمودة ويقوي أواصر الترابط والتكافل بين الأسر، فتطيب الأنفس من أمراض الجفاء والبغض والبخل والجشع، وتشفى العلاقات من داء القطيعة والمشاحنات والخصومات التي تباعد بين الأقارب والأحباب لأسباب تافهة وأعذار واهية.
ولعل من أجمل ما نلمسه في هذا الشهر الكريم؛ الرحمة التي تدخل البيوت فتغير أحوالها وتلطف جوها فيكثر فيه أكثر من غيره تآلف الأسر وانجماع أفرادها في لمات عائلية تتسم بالمودة والكرم والعطاء، وغيرها من صور الإحسان التي رغب فيها الإسلام وحث عليها وأثاب فاعلها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام” [رواه الترمذي].
لذلك كان من أفضل وأعظم ما يتقرب به المؤمن من ربه في هذا الشهر نية صادقة مخلصة تعظم فيها المقاصد وتتجدد، ولسان صادق صدوق طيب ينثر عبق الكلام وأطيبه، وقلب رحيم متسامح يعفو ويصفح، ونفس مطمئنة تهفو لبركة صلة الرحم، وأياد كريمة تتسابق للصدقة والبذل في سبيل الله.
وعلى المؤمن القاصد وجه الله تعالى السالك مدارج الإحسان الطامح للفوز بالجنان والعتق من النيران، جعل هذا الشهر فرصة لصلة الرحم وتجديد الوصل بين الأحباب وتفقد ذوي القربى من المحتاجين لما في ذلك من الأجر والثواب العظيم والفضل والخير العميم. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ له فِي رِزْقِهِ، وأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ” [أخرجه البخاري].
فالواصل رحمه يصله الله عز وجل في الدنيا والآخرة، فينال القربات والرحمات والدرجات ويجزل له الله العطاء فيدر عليه النعم ويدفع عنه المصائب والنقم.
من جهة أخرى فقد ظلم وأساء وخسر من قال أو ظن أن “الأقارب عقارب” وإن كان مازحا، فهذه دعوة فاسدة وخبيثة للقطيعة والعداوة والتنافر بين الأرحام، بل إن مثل هذه الأفكار تتوارثها الأجيال وتبقى سيئات جارية. وقد وطن هذا السلوك بعض منابر الإعلام التي تسعى لطمس الهوية الإسلامية وتدعو “للفردانية” وتفضيل المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
وفي هذا الصدد نشير بكل أسى وأسف أن العلاقات الاجتماعية تغيرت كثيرا وتدهورت للأسوأ في السنوات الأخيرة، فقد “تفردنت” الأسر وانعزلت عن بعضها البعض وانقطع حبل المودة والمحبة وفُكَ وثاق التآزر والتآخي بين الأقارب، وأصبح حال سبيل البعض ينادي نفسي نفسي على غير ما عهدناه في ديننا السمح وعاداتنا وثقافتنا كشعب مغربي مسلم محب للكرم والإيثار أبا عن جد.
بل إن أخطر ما في ذلك أن هذه السلوكات الدخيلة تقطع وتمنع سننا واجبة من سنن الإسلام؛ كإطعام الطعام وصلة الأرحام وإفطار الصائم والصدقة وغيرها من الأخلاق العظيمة التي لها ما لها من الأثر الطيب على الفرد والأسر والمجتمع.
زد على ذلك أن قناعات الناس ومعتقداتهم ونظرتهم للواقع تغيرت بشكل عكسي، مما أثر سلبا على هذه الروابط الأسرية والعادات الاجتماعية. فعلى سبيل المثال انتشار ثقافة التكلف وتفشي مظاهر التباهي وفن “البريستيج” و”الإتيكيت” كلف الأسر ما لا تطيق. فالضيافة الواحدة تتطلب تكاليف مادية ومجهودات معنوية وجسدية، وتستوجب تحضيرات وطقوسا خاصة من أطباق متنوعة وأواني فاخرة ولباس خاص وبروتوكولات معقدة وما خفي أعظم… وهو الشيء الذي ساهم في تفكك الأسر وتباعدها ونفورها من هذه اللمات والضيافات.
في حين أن بيت القصيد ليس التكلف والمبالغة وإنما الانجماع على الله عز وجل وإخلاص النية في ذلك وتحقيق معاني التكافل والإحساس بالفقير والجائع والمحروم، وهل يحلو جو رمضان وهل تكتمل فرحته بغير انجماع الأحباب والأقارب على موائد الرحمان في الله وعلى الله؛ يتبادلون أحسن الكلم وينثرون أصدق الابتسامات ويوزعون الحب والأمان، فيحنو بعضهم على بعض ويكرم الكبير ويوقر ويحتفى بالصغير ويقدر، فيزيد بذلك النور توهجا والطعم حلاوة والقلوب رقة والنفوس صفاء، لا يكدر صفوها شحناء ولا جفاء.
ونعم الأجداد أجدادنا؛ تشربوا من بحر هذه الأنوار وتذوقوا عجائب صلة الأرحام وإطعام الطعام، فتسابقوا وتهافتوا على فعل الخير والإحسان لذي القربى، وحافظوا على منظومة الأسرة مجتمعة متماسكة متكافلة مبادئها ثابتة وقيمها راسخة توارثتها الأجيال على مر الأزمان. ونحن بدورنا كآباء وأمهات أمام مسؤولية شاقة وعظيمة تتجلى في حمل أمانة الأسرة المتكافلة، والحفاظ عليها من شوائب الأنانية والفردانية، وتوريثها للأجيال القادمة، وتعليمها للناشئة حتى تنمو شجرتها وتجنى ثمارها.
أختم كلامي بسؤال يطول فيه الشرح والتفصيل: بأية نية تنفق وتكد أخي الكريم؟ وبأية نية تجدين وتشقين أختي الفاضلة؟ بأي نية وبأي قصد تطعمان الطعام؟
أول الأمر وأوسطه وآخره إخلاص النية لله عز وجل وتعظيمها؛ فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فرب عمل صغير حضرت فيه النية وعظمت نال صاحبه العلا، ورب أعمال كثيرة غابت فيها النية جنى صاحبها الإرهاق البدني والجهد النفسي فقط.
فتسلحي أختي الصائمة الكريمة بالنية الخالصة حتى تتحول عاداتك إلى عبادة، وغفلتك إلى ذكر، وعملك إلى طاعة، ويتحقق القصد وينال المراد ويثبت الأجر إن شاء الله تعالى.
رمضان أيام معدودات سريعة المرور لا تقبل التهاون والفتور، تفتح فيها أبواب الرحمات وتتضاعف الحسنات وتستجاب الدعوات وتتحقق الأمنيات، فاطرقوا الأبواب وعظموا النوايا وشدوا الهمم واطلبوا العلا؛ فما نيلها بالتمني ولكن بالعمل والبذل والعطاء والتآخي والصفاء.