مجتمع فتنوي
تتنوع الفتن التي تعاني منها المؤمنات والمؤمنين في المجتمعات الإسلامية وداخل الأسر لما يعانيه الإنسان من حرمان مادي وكبت سياسي وظروف اجتماعية واقتصادية وأخلاقية ناتجة عن فساد الحكم وضعف الأمن الغذائي والصحي والانحلال الخلقي والجهل والتهميش، “وفتنة الرجل في أهله هي فساد تدبير المنزل” 1، مما أورث الإنسان عدم الاستقرار في أسرته وفقدان لمعنى وجوده في الحياة، وقساوة في القلوب، وبهيمية أرضية تثقله عن ذكر ربه ومناجاته والصعود به إلى السعادة الأبدية؛ سعادة الإيمان بالمصير الخالد عند الله تعالى.
لكل ذلك أوجب الإسلام على الوالدين وخاصة المرأة التربية الإسلامية للأبناء واغتنام مواسم الخير لغرس بذور الإيمان والعمل الصالح وإعداد الشخصية المتوازنة، للعودة بالأمة المستضعفة المنكوبة إلى ما كانت عليه في خير القرون؛ خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
اغتنام مواسم الخير: شهر رمضان الأبرك
عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان قال: “يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه..“ 2.
وشهر الصيام شهر بركة وشهر مواساة وتقرب إلى الله تعالى وانكباب على كتابه تلاوة وحفظا وتدبرا لأنه شهر القرآن والمغفرة، تشتغل فيه المؤمنة الصائمة حق الصيام بالعبادة والذكر، وتسمو روحها إلى الملإ الأعلى لتنسيها أثقال الأرض وتتعلق بمعاني السماء، قال صلى الله عليه وسلم: “من فطر صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار“ 3. وهو شهر الرحمة، قال صلى الله عليه وسلم: “من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار“. وهو شهر الخير والبركات وفيه يزاد رزق المؤمن وتضاعف حسناته، قال صلى الله عليه وسلم: ”من سقى صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها أبدا“ 4.
وينبغي اغتنام نفحات رمضان لتزكية نية القرب إلى الله بمحبة فيه لذوي القربى واليتامى والمساكين وسائر المسلمين بالتسامح والصبر على الأذى والكرم والإنفاق، عن معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أفضل الإيمان الصبر والسماحة“ 5. ومن أهم ما نغتنمه من هذا الشهر الكريم جمع شمل الأسرة على موائد الإفطار وإحياء سنة السحور، وغرس مبادئ الدين الحنيف في قلوب النشء، ومما يجب تنشئتهم عليه وتعليمهم في هذا الشهر الكريم:
سلامة الفطرة
فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي دين الإسلام. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: ”والمعنى القرآني يعطيها مدلول استواء الخلقة الباطنية للإنسان، المجبولة على الإيمان بالله جل وعلا ومعرفته. فمعنى سلامة الفطرة سلامة هذه الخلقة الباطنية، المعبر عنها بالقلب، واستعدادها لتلقي الإيمان بالله عز وجل وبغيبه، وكفاءتها لمعرفته سبحانه وتعالى على ما يتجلى لها ويعلمها“ 6. والمحافظة على الفطرة محافظة على الدين وغرسه في قلوب الأطفال وتربيتهم على الإيمان؛ حتى لا تفسد الفطرة بالانحراف عن الدين، واستعدادا لحمل الأمانة “أمانة معرفة الله وتوحيده”.
خلق مجالس أسرية للذكر وتعليم القرآن الكريم
روى أبو داود رحمه الله بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه قال: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تبارك وتعالى، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده“؛ فينال أفراد الأسرة أجر الانجماع على الله وأجر تلاوة كتابه ومدارسته وتعلمه وتعليمه للأبناء، وبذلك تتغشاهم الرحمة وتتنزل عليهم السكينة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده.
ويحفز الآباء أبناءهم خلال الشهر الفضيل على حفظ سور أو آيات من الذكر الحكيم، ويتم تشجيعهم بالجوائز، وتقام لهم حفلات عائلية، وكذا للصائمين لأول مرة من الصبية والولدان، في جو يملؤه الحب والترابط القلبي بين الآباء والأبناء، ويترسخ حب القرآن في قلوبهم، وتترسخ السنة النبوية في عقولهم. يقول ولي الدين عبد الرحمان بن خلدون رحمه الله: “اعلم أن تعليم القرآن للولدان شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الحديث. وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات. وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا. وهو أصل لما بعده. لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للممتلكات، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه“ 7.
صحبة إلى المسجد
إن اصطحاب الأبناء إلى المساجد خاصة في شهر رمضان وحضور صلاة التراويح مما تهفو قلوب الصغار وتتشوق إليه، فرمضان بالنسبة إليهم هو عيد من أعياد السنة، وبهذا الفعل تتعلق قلوبهم بالمساجد ويحبونها ويتعلمون الوضوء والطهارة ولبس الجميل من الثياب، كما يتعلمون آداب المسجد واحترام الكبار والانضباط وحسن الاستماع للإمام، وكذا التحلق حول العالِم بين العشاءين لسماع الدرس، وبذلك تتكون الشخصية الإسلامية التي فطرت وتربت على الفطرة السليمة المستمدة إيمانها وأخلاقها واستقامتها على الدين من صحبة وتغذية روحية وتربية وتعليم بما يصلح ويثمر.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وجد علينا إنك أنت الجواد الكريم.
[2] أخرجه عنه جماعة منهم ابن خزيمة في صحيحه، وابن شاهين في فضائل رمضان، والبيهقي في الشعب وفي فضائل الأوقات
[3] رواه الترمذي وقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ
[4] رواه ابن خزيمة في صحيحه ثم قال: صح الخبر
[5] رواه الديلمي في الفردوس
[6] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص 127.
[7] ابن خلدون، المقدمة ص 1038، عن كتاب إمامة الأمة لعبد السلام ياسين، ص 165 -166.