رمزية الإسراء والمعراج في السلوك إلى الله

Cover Image for رمزية الإسراء والمعراج في السلوك إلى الله
نشر بتاريخ

في حياة كل مؤمن تتراكم الحقائق وتتشكل هوية الروح وفق مسيرة قلبية تجعل كلا منا يسقط محطات السيرة على سيرورته الروحية. فنتساءل جميعا أية قراءات يمكن أن نشتغل عليها لنؤول حدث الإسراء والمعراج بمنظور الواقع؟

هي محطات ثلاث عرفتها هذه الحادثة العظيمة، في كل محطة منها تتداخل الأسباب وتتلألأ النتائج معلنة أن الموعد الله ابتداء وانتهاء.

المحطة الأولى: الإسراء

محطة الانطلاق: مكة.

محطة الوصول: بيت المقدس.

الزمان: ليلا.

الوسيلة: البراق.

السائر: رسول الله ﷺ.

الصاحب: جبريل عليه السلام.

المسار: أفقي.

الإسراء هو السير ليلا، مع ما يعتري الليل من ظلمة وتعب وإرهاق وإمكانية تكذيب وتدخل مؤلم.. قد يتساءل السائل عن موعد الانطلاق، وبعد تأمل عميق في تجارب الناس يتبين لك أنه موعد يتغير من شخص لآخر، فكلما تراكمت عليك الابتلاءات دفعتك إلى الله وجعلتك تختار الليل وجهة فرارك إليه.

تفر إليه عندما يقسو عليك أحب أحبابك فلا تجد إلا الله يسمع أنينك ونحيب قلبك.. عندما يرميك الناس بحجارة ألسنتهم، أنت الذي كنت تتقاسم معهم جمال ما رأت سريرتك، تتولى مسرعا إلى الله، تتحسس نداء: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ في الثلث الأخير من الليل.. الله الكريم.. يعرض فضله.

عندما تسيل دموع قلبك دماء ساخنة، تجد الله يربت عليك بحنانه ويدعوك أن تقيم عند أعتابه مترقبا كرمه، فيقرب لك البعيد ويفتح لك ما ظننته مستحيلا ويواسيك، فيدلك على من يقطع بك لحظة انكسارك ثم ينشئك خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.

من معقل روحك انطلقت مناجاتك.. من بين أصحابك لويت ذراعك.. من وسط ذويك تعثرت خطاك.. من عقر الدار حلت بك الأقدار.

فلا يحزنْ قلبك، واخرج إلى حيث قداسة النور، اقطع أقصى مسافات البعد بحثا عن الحقيقة، متوسدا حسن يقينك بالله، ممتطيا براق شوقك. ستخطو خطوتك على قدر ما رأى قلبك، ولن يرى قلبك حتى يصفو لله وحده، وإذا رُمت صفاء فلا تلتفت إلى الأغيار، بل اصحبهم في دعائك، لعل الله يخرج من قلوبهم معاني تدل على الله.

لا شك أن الطريق موحش والصحبة تزيل وحشته، الطريق مظلم والصحبة تنيره، الدرب طويل والصحبة تطويه.

وأنت تُقلب قلبك بحثا عن الخلاص، تدري أن الليل مفتاح السالكين، تتقلب بين الساجدين.. شوقك طبقك، بل براقك الذي يطير بك إلى حيث طارت همتك، براقك حسن الظن بالله عز وجل.

المحطة الثانية: المعراج

نقطة الانطلاق: المسجد الأقصى.

الأثر: قبة الصخرة.

الصاحب: سيدنا جبريل عليه السلام.

المسار: عمودي.

محطة الوصول: السماء السابعة.

القبة البشرية قيد كل محب تضيق روحه ذرعا بما يحجب شهود جمال الله وجلاله وكماله، غير أن الأمر ليس تحليقا وإنما هو قبل كل شيء اتباع واقتفاء لخطى الحبيب.. اقتداء المحب بالمحبوب؛ أن توافق قدمك أثر رسول الله في صخرة الحياة، توافق سنته وتتحسس أنفاسه صلوات ربي وسلامه عليه في قلوب الصادقين، ساعتها تنطلق الروح صُعدا بعد أن تخلصت من ثقل الطين، وتبدأ رحلة العروج بالروح إلى منازل العرفان. وأنت في رحلة الصعود تتلقاك الأرواح الطيبة بالفرح والسرور وتسلم عليك، بل تهنئك و تجعل لك في سرها نصيبا من الدعاء الرافع الخاشع الشافع، حتى يستقر بك المقام ويأتيك اليقين وتتحقق بالعبودية لله رب العالمين.

المحطة الثالثة: الدخول على حضرة الذات العلية

محطة الانطلاق: سدرة المنتهى.

محطة الوصول: العرش.

انتهاء دور جبريل عليه السلام.

انتهت كل مشوشات الوصول ووعيت أن الأغيار عقبة السالك، بل توقن أن التخلص من الأغيار مرحلة مهمة لتستحق الدخول على حضرة رب العزة؛ مشتاقا إليه وحده هائما به من دون الخلائق. دخول يكون فيه قلبك متوقفا عن كل شيء إلا عن النبض بالله، الفرح يكاد يخرجه من جسدك، وصوت حنينه يكاد يصم القلوب المرهفة التي تلقي أسماعها إلى أسرار الكون.

ها أنت وربك.. لحظتها تتلقى عن الله، وتفهم عن الله، ولا تأنس إلا بالله، وتأتيك الجوائز تترى،

وتفرح بعطاء الله، بل تفرح بالله.. يطول بك المقام حتى ترتوي من عطش الطريق وتغوص في الحقيقة وبصرك حديد، وتناديك الحقائق بلسان المحبة: هل صدقا تحب محبوبك؟ هل صدقا تود وصاله؟ هل تشتاق إلى وصاله؟ إذن أقبل عليه، ادخل المحراب.. قل: يا الله، عبدك المشتاق يستأذنك.. ثم أعلنها “الله أكبر” ثم اسجد واقترب.

جائزة الرحلة

لكل رحلة نهاية ولكل تعب جائزة ولكل محب ميثاق محبة يعقد على قلبه. كل العلائق إلى فناء إلا علاقتك بالله؛ دائمة بدوام ملك الله، ما دمت تفهم عنه سبحانه أن براهين المحبة متعددة وأعظمها برهان الصلاة، فالصلاة ميثاق الوصول وجائزة الواصلين.. الصلاة صلة.. الصلاة معراج تنكسر فيه راكعا، وتتذلل فيه ساجدا، وتعتز فيه قائما، وتتودد فيه داعيا، وتتذكر فيه منيبا، وأنت في كل أحوالك تسمع نداء “الموعد الله”.