رسول الله ﷺ قدوة المربين: 2- صناعة الرجال

Cover Image for رسول الله ﷺ قدوة المربين: 2- صناعة الرجال
نشر بتاريخ

جوهر التربية النبوية بناء الإنسان بناء متوازنا بحيث لا يطغى فيه جانب على جانب؛ فيكون عبدا لربه يتقرب إليه بالفرائض والنوافل، ويكون مجاهدا ساعيا لخدمة أمته وعزتها. رحيما مع المؤمنين وفي المواقف التي تستدعي الرحمة، شديدا على الأعداء. ومن تلك الجوانب المهمة التي أولاها صلى الله عليه وسلم عناية كبيرة في شخصية المستهدفين بتربيته النبوية سيما الأطفال منهم، جانب الرجولة بما هي جرأة في الحق وشجاعة في غير تهور وجهاد في غير عنف.

ولذلك أثنى الله تعالى على رسوله ﷺ وعلى صحابته بقوله: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥۤ أَشِدَّاۤءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَاۤءُ بَیۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعًا سُجَّدًا یَبۡتَغُونَ فَضۡلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰ⁠نًاۖ سِیمَاهُمۡ فِی وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ [الفتح، 29].

سيرته صلى الله عليه وسلم العطرة تزخر بالصور التربوية التي هدفها صناعة الرجال. وفيما يلي صور لهذه الصنعة:

1- تربيته صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي كرم الله وجهه

سيدنا علي ابن عم رسول الله ﷺ وزوج ابنته وحبيبه. المجاهد الفاتح والخليفة الراشد الذي واجه فتنة لا تتحملها الجبال. لم يضعف ولم يلن في الحق حتى ارتقى شهيدا رضي الله عنه. ما كان ليكون كذلك لولا أنه صنع على عين رسول الله ﷺ وعلى يديه مذ كان صبيا.

 معلوم في كتب السيرة أن سيدنا عليا كرم الله وجهه هو أول من أسلم على الإطلاق وقيل من الأطفال، وكان صبيا يومها لم يبلغ الحلم. من يوم إسلامه ورسول الله ﷺ يتعهده بالتربية ويقحمه في عظائم الأعمال. قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ كان إذا حضرت الصّلاة خرج إلى شعاب مكّة، وخرج معه عليّ بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصلّيان الصّلوات فيها 1.

إنها شجاعة كبيرة أن يتحدى العقليات الوثنية أولا فيسلم لله رب العالمين ويصلي له، وشجاعة كذلك أن يخالف المألوف من عادات قومه الذين دأبوا على الركوع للات والعزى.

ثم سرعان ما يشركه رسول الله ﷺ في تحمل أعباء الدعوة، فيكلفه صلى الله عليه وسلم في أول أيام الدعوة السرية بإعداد قرى المدعوين وبدعوتهم لبيت رسول الله ﷺ. ولك أن تتخيل طفلا يعد وليمة لكبار قومه. عن ابن عبّاس عن عليّ بن أبي طالب قال: “لما نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ وأنذر عشيرتك الأقربين قال: يا عليّ اصنع لنا رجل شاة على صاع من طعام وأعد لنا عس لبن ثمّ اجمع بني عبد المطلب، ففعلت، فاجتمعوا له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب، فقدمت إليهم تلك الجفنة فأخذ منها رسول الله ﷺ حذية فشقها بأسنانه ثمّ رمى بها في نواحيها وقال: كلوا باسم الله، فأكل القوم حتّى نهلوا عنه ما نرى إلّا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل منهم يأكل مثلها، ثمّ قال: اسقهم يا عليّ، فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتّى نهلوا جميعا، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلمّا أراد رسول الله ﷺ أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقد سحركم صاحبكم، فتفرّقوا ولم يكلمهم رسول الله ﷺ، فلمّا كان الغد قال: يا عليّ عد لنا بمثل الّذي صنعت بالأمس من الطّعام والشراب، ففعلت ثمّ جمعتهم له، فصنع رسول الله ﷺ كما صنع بالأمس، فأكلوا وشربوا حتّى نهلوا ثمّ قال رسول الله ﷺ: يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شابّا من العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بأمر الدّنيا والآخرة” 2.

وفي الهجرة كلفه رسول الله ﷺ بالمبيت مكانه. وفي هذا ما فيه من القوة والشجاعة فإنه سيواجه طغيان قريش وحده حين يقتحمون البيت.  قال صلى الله عليه وسلم لعليّ بن أبي طالب: “نم على فراشي وتسجّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنّه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم، وكان رسول اللّه ﷺ ينام في برده ذلك إذا نام” 3.

ويوم خيبر أعطاه رسول الله ﷺ الراية ففتح الله على يديه. قال أبو هريرة رضي الله عنه: إن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: «لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ويفتح الله على يديه». قال عمر: فما أحببت الإمارة قبل يومئذ، قال: فدعا عليا فدفعها إليه 4.

وهيأه رسول الله ﷺ للحكم فأقحمه القضاء. عن علي قال: “بعثني النبي ﷺ إلى اليمن، وأنا حديث السن، ليس لي علم بالقضاء، فضرب صدري، وقال: «اذهب فإن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك». قال: فما شككت في قضاء بين اثنين بعد” 5.

2- منافسات بين يديه صلى الله عليه وسلم

كان الأطفال يعرضون على رسول الله ﷺ في الغزوات فيجيز من يراه قادرا على القتال ويرد غيرهم. وكانوا يتنافسون أيهم يقبله ليشارك في الجهاد. ولربما وقف أحدهم على رؤوس أصابع قدميه، ولعل أحدهم أبدى مهارة في الرمي أو المصارعة. وقد روي أنه ﷺ “أجاز يوم أحد سمرة بن جندب الفزاريّ ورافع بن خديج أحد بني حارثة. وكان رسول الله ﷺ قد ردّهما. فقيل له: يا رسول الله، إنّ رافعا رام، فأجازه. فلما أجاز رافعا قيل له: يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعا، فأجازه” 6.

وأخرج الطبراني: “كان النّبيّ ﷺ، يعرض غلمان الأنصار في كلّ عام، فمن بلغ منهم بعثه، فعرضهم ذات عام، فمرّ به غلام، فبعثه في البعث، وعرض عليه سمرة من بعده فردّه، فقال سمرة: يا رسول الله، أجزت غلاما، ورددتني، ولو صارعني لصرعته؟ قال: «فدونك، فصارعه» قال: فصرعته، فأجازني في البعث 7.

3- بعث أسامة خاتمة كالوصية

في آخر أيامه صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا عقد اللواء لأسامة بن زيد في بعث من كبار المهاجرين والأنصار إلى الشام في فلسطين. فمرض صلى الله عليه وسلم مرضه الذي قبض فيه والجيش لما يبرح بعد المدينة. فظل صلى الله عليه وسلم يوصي أن أنفذوا بعث أسامة. وكانت هذه أول مهمة حرص عليها الصديق رضي الله عنه بعد توليه الخلافة. أسامة رضي الله عنه كان شابا لم يجاوز العشرين من عمره، والمهمة الوصول إلى فلسطين. إشارات نبوية عظيمة؛ أن مستقبل الدعوة يصنعه الشباب، وأن المسؤولية الآن على عاتقهم، وأن فلسطين هي البوصلة.


[1] السيرة النبوية لابن هشام – المؤلف: عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، أبو محمد، جمال الدين (ت 213 هـ) – ج 1، ص 229.
[2] الخصائص الكبرى- المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت ٩١١هـ) – ج 1 ص 205/206.
[3] السيرة النبوية لابن هشام – ج 2، ص 91.
[4] سير أعلام النبلاء – المؤلف: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 هـ) – ج1، ص 228.
[5] نفس المصدر السابق، ص 238.
[6] الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة – محمد بن أبي بكر بن عبد الله بن موسى الأنصاري التِّلمساني المعروف بالبُرِّي (ت بعد 645هـ) – ج 1، ص 357.
[7] المعجم الكبير – أبو القاسم الطبراني (ت 360هـ).