رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحمات لا تنقطع

Cover Image for رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحمات لا تنقطع
نشر بتاريخ

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَن جَابِرٍ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَاراً، فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا، وَهوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَن النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي.

صلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين الذي آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب وجوامع الكلم، فبالغ في بذل النصح والإفهام بكل وسيلة ممكنة؛ وها هو هنا يضرب لنا المثال لعلنا نتوب ونرجع وندرك سعة الرحمة التي بثها الله في قلبه، وشدة الحرص الذي يعصر روحه الشريفة، وصدق النصح الذي كلف بإسدائه.

ومما يعلو بالمثل الذي يضربه الحديث النبوي إلى أسمى درجات الصور البلاغية أنه يستمد عناصره من الواقع المحسوس كإيقاد النار والفراش والجنادب والأخذ بالحجز؛ صور كانت حاضرة في ذاك العهد بقوة وما تزال، فيسيح العقل ويسحب معه المشاعر إلى عالم من الظلمة والبرد الذي يلجئ المرء إلى إشعال نار لم تكد تزهر حتى حام حولها الفراش وأحاط بها، فلم يجد مُوقد النار بدا من إبعاد تلك الكائنات اللطيفة التي يصور لها غباؤها أن الخير في اقتحام النور، فتجده يشيح بكلتا يديه يبعد هذه ويدفع بالأخرى لعلها تدرك خطورة ما تقدم عليه، لكن دون جدوى.  

وعندما تكتمل الصورة ويدرك العقل المشهد من جميع جوانبه، يخرجنا التصوير النبوي من عالم المثال إلى عالم الحقيقة المؤلمة الذي يبرز تهافت الناس على نار الشهوات وهرولتهم إلى دركات الكفر والفسوق والعصيان والغفلة، والنبي الكريم الرحيم يقف أمامهم ينادي بأعلى صوته يحذر وينذر، يدفع هذا ويأخذ بحُجَز الآخر، مشيرا إلى الطريق المستقيم، صائحا فيهم أن ابتعدوا فأنتم توشكون على الهلاك، ومع ذلك يتفلت الكثير من يديه الشريفتين فيغلبونه ويدخلونَ في نار المعصية بشدة ومزاحمة، مصرين على المضي قدما نحو الهاوية.

لا تقف رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حد التحذير والبيان والنصح والأخذ بالحجز، ولكنه يلتجئ إلى ربه فيدعو ويتضرع ويبكي ويستغفر استمطارا لرحمات ربه لأمته وطلبا للمغفرة لقوم لا يعلمون.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه “عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ – رضي الله عنهما – أَنَّ النَّبِيَّ  صلى الله عليه وسلم تَلا قَوْلَ اللَّهِ تَعالى فِي إِبْرَاهِيمَ – عَلَيْهِ السَّلام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَقَالَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلام-: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي، وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَاسْأَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلام- فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللَّهُ يَا جِبْرِيلُ: اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوءُكَ”.

كان حريصا على أمته وهو في الدنيا، غير أن حرصه لم ينقطع وهو في روضته الشريفة، يتقلب في رحمة الله ومغفرته، حي يُرزق؛ لأن مقامه ودرجته أسمى من درجة الشهداء الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين، فهو يتابع أخبار أمته ويشفق عليها ويستغفر؛ أخرج البزار بسند صحيح عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ”، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ”.

حاشا لله أن يعذب هذه الأمة وهي تكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتبع هداه، وحاشاه سبحانه أن ينتقم منها وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله تعالى في حقه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.