“رسالة الفتوة”.. يوم اجتمع بضع فتية وصاغوا تجربة إعلامية مُلهمة

Cover Image for “رسالة الفتوة”.. يوم اجتمع بضع فتية وصاغوا تجربة إعلامية مُلهمة
نشر بتاريخ

في صباح يوم جميل، ولعله كان عاديا لكن النفس البشرية تُلحق بالأوقات ما يعتريها من مشاعر، خرج أربعة شباب من بيوتهم يقصدون نفس الوجهة، تدفعهم قوة الشباب والإقبال على الحياة بروح الجد ونُشدان الحق إلى الاجتماع حول فكرة نافعة.

ومع ما يملكون من قوة الرأي والعزيمة إلا أن قلة ذات اليد لم تمنعهم من خوض غمار التجربة، توكلوا على الله وباشروا العمل.

التف الشباب حول طاولة في ركن من مكتبة تعود لأحدهم، أو بشكل أدق يتقاسمها مع شريك آخر، وضعوا فوق الطاولة أوراقهم وأقلامهم، وبضع مقالات جاهزة، فالفكرة ليست وليدة اليوم، بل نضجت على نار هادئة.

وضع الأصدقاء اللمسات الأخيرة التي ظهر لهم أنها كافية لإصدار العدد الأول من جريدة، انبثقت فكرتها من واقع ما كان يجري في الجامعة من أحداث جسيمة وكثيرة، لم يجدوا قناة لتصريفها، فمع قلة المنابر التي كانت تقبل النشر لطلبة العدل والإحسان، إلا أنها كانت غير كافية، وطبعا لن تغطي جميع الأنشطة.

قبل هذا الاجتماع، الذي يعد النقطة الفعلية لانطلاق التجربة الجديدة، توالت اللقاءات، وبين بيت الأستاذ عبد الصمد فتحي ومكتبته، وبيوت إخوة آخرين، أخذ بتلابيب الشباب همّ التداول في مواضيع الجريدة وأبوابها واستراتيجية عملها وخط تحريرها.. فنظموا اللقاءات تلو الأخرى، وخاضوا نقاشات كثيرة. كانت مرحلة تأسيسية تحدّت كل الصعوبات وتجاوزت كل المعيقات التي وقفت حجر عثرة في طريقها.

لم تكن البداية ارتجالية أو متسرعة، بل حرص أصحاب المشروع على التؤدة وأخذ الوقت الكافي لإنضاج الأفكار والمقترحات، واستغرقت لذلك شهورا وعشرات اللقاءات وجهودا جبارة، كانت باكورتها جمع بنك من المقالات والكتابات، أثمر جزء منها العدد الأول للجريدة.

كانت هذه الثلة تضع المقترحات ثم ترفع إلى المكتب الطلابي الذي كان تحت الإشراف المباشر للدكتور عبد العلي المجذوب الذي أولى لهذا الاجتهاد اهتماما كبيرا، وفيه كان يتم الحسم.

اختار الشباب لجريدتهم اسم “رسالة الفتوة”، لتنتقل من فكرة نشأت في المكتب القطري للقطاع الطلابي لجماعة العدل والإحسان، ومثلت طموحا له لسنوات النصف الثاني من التسعينيات، ازدادت ملحاحيتها مع الأحداث الطلابية التي عُرفت بالدورية الثلاثية لسنة 1997، والتي تميزت بهجمة شرسة من طرف النظام المغربي على القطاع الطلابي، بصَمتها انتهاكات كثيرة، كان يلزمها قناة إعلامية للنشر، حيث كان يُعدّ القطاع تقارير إعلامية ونشرات، وكان يجد عَنتا ومعاناة في نشرها، وما كان ينشر في منابر وطنية كان دون طموح القطاع والطلبة الناشطين فيه، الذي كان يفترض أن يوازي حجم الانتهاكات وأيضا الأنشطة والمنجزات.

هذه الأحداث ستدفع طلبة العدل والإحسان إلى تسريع إخراج الفكرة إلى الواقع، فكان الهدف الأساس لهذه التجربة المساهمة في إغناء المشهد الإعلامي المغربي، ورفع الحيف والتعتيم عن العمل الطلابي والشبابي بجماعة العدل والإحسان.

كانت أوراق الجريدة في البداية في حقيبة تتناقلها الأيادي من مكان إلى مكان، إذ لم يكن للجريدة مقر للعمل، ومع ذلك كان الشباب يعملون بحماس وفرح في هذا المجال، ليقينهم التام بانعكاساته الإيجابية على الحركة الطلابية والشبابية بالمغرب.

في مكتبة الأستاذ عبد الصمد فتحي، أحد مؤسسي الجريدة ورئيس تحريرها لاحقا، بدأ الأساتذة عز الدين احميمصة وعبد الجليل الصكنيضي وحسن بناجح إلى جانب الأستاذ فتحي، نقاشهم حول الخطوات العملية اللازمة، سواء من الجانب القانوني أو التحريري، لمباشرة التنفيذ.

الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله مع أعضاء هيئة التحرير

شرع الفتية في الإجراءات القانونية والتقنية التي يفرضها أي إصدار، بدؤوا باختيار الاسم، وكانت المقترحات كثيرة، تم الحسم فيها بعد زيارة للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى وصف فيها مرحلة الشباب بالفُتُوّة، فاستقى الطلبة الاسم من هذا الوصف الذي أجراه الله عز وجل على لسان الإمام وجمعوا بين كلمتي “رسالة” و”فتوة”..

أعجب الشباب بالاسم لما يحمل من دلالات بَسطوها في عددهم الأول، فهو “اسم جامع لمعاني الإيمان، والقوة، والرجولة، والنجدة، والسماحة، والرفق، والكرم، وملازمة الخدمة، والغضب للحق، والكف عن المحارم، والترفع عن الدنايا، وطلب المعالي.. الفتوة بهذا المفهوم الجامع لأمهات الخصال الجهادية النفسية والخلقية والسلوكية هي معقد آمال الأمة وأساس بناء هويتها الرسالية القرآنية” (الصفحة الأخيرة من العدد الأول).

ثم عمدوا إلى استصدار “الشهادة السلبية” لاسم الجريدة، وكلفوا الأستاذ محمد أغناج، المحامي بهيئة الدار البيضاء، بصفته مديرا للجريدة، بمباشرة إجراءات الترخيص لها.

في المكتبة إياها، والتي احتضنت اللقاءات شبه الرسمية للنواة الأولى لهيئة تحرير الجريدة، تم اختيار مواد العدد الأول، وكان المؤسسون قد أعدوا مقالات كثيرة قبل إطلاقه، أو ما يصطلح عليه بـ”ثلاجة الجريدة”، كانت تحفظ عند الأستاذ الصكنيضي.

التحق بهذه النواة، وباجتماعات هيئة التحرير، إلى جانب الأستاذ أغناج؛ الأستاذان عمر إحرشان ومحمد منار، والصحافي حسن اليوسفي، دليل هذه الثلة العملي، حيث كان يعمل صحافيا، وذو خبرة في مجال الإخراج الصحفي، خصوصا وأن الرقن والإخراج كانت تتم معالجته آنذاك على حواسيب “الماكنتوش”، ساعدته في العمل إحدى الكاتبات التي كانت تعمل معه، فكانت ترقن المواد، وكان الأستاذ اليوسفي يقوم بالإخراج والمتابعة لدى المطبعة.

ولا تسأل عن فرحة الشباب لحظة صدور العدد، فقد كانوا كمن ينتظر مولودا جديدا، قضوا ليلتها مجموعين بمطبعة “الأمل”، التي تطبع الجرائد بشارع مولاي إسماعيل بعين السبع، وهم يراقبون ويتتبعون أطوارها بين آلات الطباعة بلهفة وشغف، وحملوها بعد ذلك إلى شركة التوزيع. وبلغت سعادتهم ذروتها وهم يمسكون العدد الأول، المؤرخ بـذي الحجة 1419 مارس – أبريل 1999، بين أيديهم..

وأخيرا تحقق الحلم، واستقبل المؤسسون العدد الأول بخليط من مشاعر أقوى من أن توصف أو أن تكتب، فبعدما كانت تدفعهم الحوافز ذات الطبيعة المعنوية، أصبح اليوم يدفعهم التزامهم مع القراء.

الآن، وقد اكتملت شروط العمل، وحصّلوا مداخيل العدد الأول، أصبح من الضرورة اكتراء مقر واقتناء المعدات اللازمة، لذلك باشر الشباب البحث عن محل مناسب، إلى أن اهتدوا إلى بيت بشارع الشفشاوني بعين السبع، وجهزوه بما يلزم من حواسيب “الماكنتوش” وآلات الطباعة وما تحتاجه المكاتب من تجهيزات أولية، وتم توسيع هيئة التحرير، وإضافة تقنيين، ومع أن الأجور كانت متواضعة إلا أن الحافز كان قويا.

كانت هذه البداية، لكن منية مؤسسي الجريدة الجديدة كانت التأسيس لعمل إعلامي رصين وهادف، يتحلى بالمهنية والمصداقية، ويتحمل تبعات الكلمة الصادقة، لأجل ذلك حرصوا على التحاق جل الطاقم بالمعهد العالي للصحافة والإعلام بالدار البيضاء من أجل التكوين. وكان من بين الأساتذة المؤطرين الأساتذة: نور الدين مفتاح ولحسن لعسيبي والمرحوم صلاح الدين الغماري، وأستاذ عراقي كان يدرس الإخراج الصحافي، إضافة إلى آخرين.

انتقلت التجربة حينها من التطوع إلى التفرغ، ومن الهواية إلى الاحترافية، في حدود مداخيل الجريدة من المبيعات، من أجل إنتاج يحظى بالقبول ويتصف بالجودة.

استطاعت الجريدة فيما بعد، فرض وجودها في المشهد الإعلامي، فأصبح الصحفيون الجدد يطبعون ما يقارب 20 ألف نسخة تباع تقريبا بالكامل، رغم المنع من التوزيع ومصادرة بعض الأعداد. وكانت أسرة الجريدة من أوائل من أسس شبكة لتوزيع الجريدة بسبب امتناع شركة “سبريس” عن توزيعها بـ”تعليمات فوقية”. التجأت الجريدة بعد ذلك إلى شركة توزيع ثانية؛ “سوشبريس”، لتلاقي نفس أمر المنع بـ”التعليمات”.

ثم إلى مجموعة من المؤسسات المختصة في طبع الجرائد من الحجم العادي وحجم “طابلويد”، حيث صرّح مدير أحدها آنئذ بعد امتناعه عن الطبع، بأن “التعليمات المخابراتية تهدده بإحراق المطبعة في حال معاودة طبع “رسالة الفتوة””..

ومع هذه المعاناة التي لاقتها الجريدة الفتية أمام المنع بالتعليمات المخزنية من التوزيع، عمل الصحفيون على تجاوز عقبات كثيرة من أجل استمرار إصدارها بالشروط التي ارتضوها في البداية، غير أنه سرعان ما ستظهر أمامهم عقبة أخرى وجب اقتحامها، تلك التي تتمثل في الهجمة الشرسة التي شنتها ضدهم السلطات المخزنية، التي تأبى أن يسمع صوت في البلاد غير صوتها، بحيث تم منع جميع المطابع وشركتي التوزيع من التعامل مع “رسالة الفتوة”، بل ووصل الأمر إلى الهجوم على إحدى المطابع التقليدية التي التجأت إليها الجريدة حيث كان يتم طبع جريدة شباب العدل والإحسان بطريقة “الأوفست” التي تطبع على ورقة واحدة، إذ تم خلال الهجوم ليلا سرقة الآليات وأجهزة الكمبيوتر وكل محتويات المطبعة الصغيرة.

عانت جريدة “رسالة الفتوة” الناطقة باسم شباب العدل والإحسان، منذ صدور عددها الأول، ظلم الجهاز المخزني.. فكانت تارة تواجَه بالمصادرة الخفية من الأكشاك، وتارة أخرى عبر إسكاتها التام مثل ما حصل مع العدد الثامن عشر الذي حجز بالكامل من داخل شركة التوزيع دون أي مبرر قانوني، أو أي ردّ على استفسارات إدارة الجريدة التي وجّهت حينها إلى وزارة الداخلية ووزارة الاتصال، ثم العدد الواحد والعشرون، الذي صدر في حقه قرار بالتوقيف غير المبرّر أيضا.. حيث كانت عبارة “إلى حين إصدار تعليمات جديدة” بمثابة الاعتراف الصريح من طرف الجهات المخزنية التي أصدرته وسلّمته لشركة التوزيع “سابريس”، فلا شيء يعلو فوق قوة التعليمات.

ومع ذلك لم يكن أمام فتية الفتوة سوى التحلي بالصبر والممانعة، إلى أن سُدّت في وجههم أبواب النشر والتوزيع، ووئدت التجربة بداية سنة 2002، بأعداد لم تتجاوز 43.

وكالماء الذي كلما حصرَته السدود بحثَ لنفسه عن منافذ جديدة، انطلق الفتيان في التفكير والتأسيس لتجربة أخرى جديدة، فكان أن التقى عزمهم مع إرادة قيادة الجماعة ومكتبها الإعلامي، ليولد الموقع الإلكتروني لجماعة العدل والإحسان (Aljamaa.net)، ولتكون الجماعة من أسبق التنظيمات المغربية إلى تأسيس وجود إعلامي على الإنترنيت. وتلك حكاية أخرى من حكايات “الرسالة” و”الفتوة”، تستحق أن تفرد برواية مستقلة.

عبد الحميد مبكير عضو هيئة التحرير رحمه الله، وهو ينقّب عن الأخبار

جانب من لقاء هيئة التحرير ومراسليها

عضو الهيئة محمد منار يأخذ تصريحات أثناء تغطية مسيرة الدار البيضاء يوم 12 مارس 2000، الرافضة للخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية

من أنشطة الجريدة