رسالة إلى ابني ريان

Cover Image for رسالة إلى ابني ريان
نشر بتاريخ

ابني الغالي، بعد التحية والسلام،

أخط لك ولدي الحبيب هذه الكلمات باسم أمهاتك المكلومات بفقدك، أستميحهن عذرا أن أتكلم باسمهن من خلال هذه الكلمات.

أدعو بداية لك بالرحمة، ولنا جميعا بالصبر الجميل والربط على القلوب، فالمصاب جلل، والله لطيف بعباده.

كنت أدعو لك وأنت لا تزال ثاويا في قعر الجب بالشفاء العاجل، وأن يجبر الله الواحد، الذي أنقذك من غياباته بعد ذلك، كسرك الجسدي ورضوضك النفسية التي كنت آمل ألا تكون وإن عشت في أحشاء أمنا الأرض أياما ذوات العدد، طمعا في أن تكون رأفت بك واحتوتك دون آلام كثيرة.

دعني ابني البار أولا أعبر لك عن مدى فرحي بخروجك من غيابات الجب، فرحة لم تدم طويلا وجاء بعدها الخبر الصاعقة الذي تطير له أحلام أهل الرشاد لولا التثبت والاسترجاع والثقة في حِكمة حُكمه جل وعلا، ويشهد الله تعالى وحده أني عايشت مأساة فقدك بقلب مفطور وعين لطالما بكت بخشوع وتذلل بين يدي المولى أن يعيدك إلينا سالما، لكنها إرادة الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.

ذكرتني سقطتك برمي نبي الله يوسف عليه السلام في الجب كيدا من إخوته، وبظلمة عاشها سيدنا يونس عليه السلام في بطن الحوت لما ذهب مغاضبا فالتقمه وهو في ذلك مأمور، ولولا أن لم يكن من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، كما ذكرني بسيدنا موسى وقد ألقته أمه في اليم بأمر من الله تعالى، فأصبح قلبها فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربط الله على قلبها المكلوم…

كان ذلك كله بدايات محرقة لنهايات مشرقة، جاء بعدها التمكين والتشريف، يسر بعد عسر، وصبر جميل وتفويض واستعانة لأهل اليقين رفعت عليا وقربت إلى الله نجيا. كان حظك منها الثانية، لعل الله تعالى أرادك الشمعة التي تحترق لتضيء من حولها، وتنور دروب من بعدها.

لطالما تساءلت ابني الحبيب، عن أية خبيئة هاته لك ولوالديك رفعت ذكرك ونشرت خبرك حتى سار به وله الركبان؟ حتى فرض مشهدك الثاوي في البئر الضيقة ثقله على منصات التواصل وقنوات الأخبار والقلوب والفِكَر.

أية خبيئة هاته أذاعت السر المكنون وأعلنت الخبر المكتوم؟ عناية ربانية تذكرنا ب: وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك.

أية خبيئة هذه أمدتك بالحياة في أحشاء أمنا الأرض لأيام، وأحيت فينا معاني التراحم والتآزر والمواساة؟

أية خبيئة هذه جعلت الناس، كل الناس، على اختلاف المشارب والاتجاهات والمبادئ والمنطلقات يتحدثون بلسان واحد؛ لسان الإنسانية البعيدة عن حزازات الفرقة والاختلاف.

لن أخفيك سرا أيها الحبيب إن قلت لك أن بابا كبيرا للتراحم قد فتحه قلبك الصغير الثاوي بين أضلع ضاقت بها مساحات الجب الضيقة. قربت بين الجيران، ووحدت الإخوان، وهدأت القلوب والنفوس. حتى الذباب الإلكتروني الذي لطالما هيّج مساحات المعارك والتلاسن من أجل الكرة والمآثر وانتماءات الكسكس والقفطان وهلم جرا، لم يجد مدخلا إلى قلوب الإخوة المتجاورين بعد أن تحقق من أن الأخوة التاريخية والروابط العقدية أوثق من أن تزيلها المشاحنات على ساحات المعارك الفايسبوكية أو التويترية الفجة، التي يديرها بمقت ومكر جنود الباطل.

فتحت بابا للتآزر كبيرا، كشف عن معدن شعبنا المغربي الأغر، وعن أصالة شعوبنا العربية والإسلامية، بل وأكدت أن دم الإنسان ثمين وأن عملته لم تصدأ، وإن خفي لزمن بريقها اللامع.

هبت الجموع من الصغار والكبار للتضحية بكل غال من أجل استنقاذك من الجب العميق الضيق الذي لا أدري إن كان يحمل إليك عبر شِعبه زفراتنا ودعواتنا وتبتلاتنا ودموعنا وأنات صدورنا المتعبة من هول الفقد والبعاد.

جاء الأبطال من كل حدب وصوب للمساعدة في إخراجك إلينا، يتقدمهم عمي علي الصحراوي الرجل البطل، ابن الشعب الشهم الذي لا تضيع عنده المكرمات ولا يتوانى عند الملمات، جاء يسعى من عمق صحرائنا ليلبي نداء الوطن، وجاء صبية شفشاون ورجالاتها، كما قدمت الأفواج زرافات ووحدانا من البيضاء وفاس والرباط وطنجة وتاونات ومن كل فج عميق ليلبوا نداء التلاحم والتآزر والمواساة، وجاءت النداءات من ربوع الأمة وأرسلت الدعوات من المساجد والمعابد، ومن البيوت والمخيمات، من المسجد الحرام ومن المسجد الأقصى، من عبيدة القسام ومن المجاهدين والمفكرين والعلماء والخاصة والعامة… بلغت من رفح وجنيين والشمال السوري وموريتانيا والجزائر ويمن اليمن، وكل ربوع وطننا الكبير، كل يلهج بنفس الدعاء عنوانه أنت أيها الحبيب، “اللهم يا ديان أنقذ ريان، اللهم استخرجه من بطن الأرض يا صاحب البسط والقبض، كما استخرجت يونس من بطن الحوت ويوسف من بطن البئر”، وقد استجاب في علاه، لكنه اصطفاك إليه واختارك لجواره.

حتى صرخات الطفولة ارتفعت بالدعاء، وأياديهم البريئة رسمت لوحات التضامن. ملحمة أنت وأية ملحمة.

بكلماتها المؤثرة أحيت والدتك الحزينة الموقنة في عودتك المشاعر الدفينة، كلنا كنا هي، نتشوف، نترقب، نرجو، ندعو، ننتظر، قد نغفو غلبة لنستيقظ على أخبارك.

كل الآباء كانوا أباك الذي لم يهدأ له روع قبل أن تبلغ إلى وجه الأرض سالما معافى. ألم يعبر ذاك البطل سائق الجرافة عن هذا حينما وصل ليله بنهاره وأصر هو وغيره ألا يرتاحوا إلا بعد أن تكون في حضن والديك.

ما وقع لك ابني الحبيب جعلنا نأمل أمورا ونرجو تحققها.

أصبحنا نوقن في إمكانية تحقق وحدة أمتنا وشعوبنا وأوطاننا، فقد صرت يا ريان صوتا من أصواتها الحرة، وصورة من صورها المشرقة التي اجتمعت حولها المشاعر والمواقف.

جعلنا نوقن أكثر فأكثر في خيرية هذه الأمة التي لا يزيدها التمحيص إلا تخصيصا، فتكشف عن ساق العزم والهم والإرادة الحرة والمكارم والمروءات.

جعلنا نوقن في رجولة الأطفال وشهامة الكبار، وقوة الشباب، ومحورية الوجود النسائي لتكامل الأدوار، وبناء صرح أمتنا وغدها المشرق. أمهات لم يبقين حبيسات خدورهن يندبن حظهن العاثر لغيابك، بل شمرن على سواعد العمل والجد، وكشفن عن قدرات وكفاءات ومروءات كفيلة بحفظ البيت المسلم من التصدع، والوطن من أن يؤتى من جهتهن. أبنّ على قوة كبيرة في احتضان الشعب، والالتفاف حول قضايا الوطن، لسان يذكر الله، وعقل يدبر ويفكر، ويد تعمل خدمة لضيوف قريتك المنسية.

ما وقع لك ابني الحبيب، جعلنا نوقن في ضرورة تحصيل التكامل بين الكفاءات العلمية والعملية، كنا، أصف لك ما حصل، وكأنا أمام جيش تلتحم ميمنته وميسرته لتحقيق السبق والنصر في معركة الوطن. وإن اقتضى الأمر تحريك الجبل من أجل الوطن، لا بد من نصرة الوطن، لا بد من إغاثة ملهوفي الوطن، لا بد من الحد من شطحات متسكعي الوطن، المتاجرين في دماء وأعراض أبناء الوطن.

جعلتنا نلتحم حول قضيتك، فأشعلت في قلوبنا فتيل الأمل أننا قادرون على الالتفاف حول قضايا أخرى شديدة الأهمية لارتباطها بحاضر الوطن ومستقبل الوطن، يجلس لها كل فضلاء الوطن بغض الطرف عن انتماءاتهم الأيديولوجية، واتجاهاتهم الفكرية، ومواقفهم السياسية خدمة للوطن.

جعلتنا نفكر أكثر في أبنائنا الآخرين بأعداد الملايين في ربوع العالم، الذين منهم المشرد، والمحتاج والمريض، والمتاجر به، والجائع الذي يقتات على فتات المساعدات، واللاجىء الذي يشكو الطوى ويفترش الأرض ويلتحف السماء.

قد لا تعي ابني الغالي كثيرا مما خطته يميني باسم أمهات الوطن اللاتي سمح كرم سجاياهن لي بالكلام باسمهن، لكني كنت على يقين راسخ أن طيب معدنك وقوة ذهنك، وطيبة قلبك الباقي على سلامة الفطرة الأولى سيدلونك حالا أو مآلا على مبتغاي منك، ومن كل طفل في ربوع هذا الوطن الذي أنتم بناته وحماته ورجالاته المستقبليون. ذهبت أنت، رضينا بقدر الله، وخلفت وراءك ريان وريان وريان وأخواتهم، سيحملون مشعل المسير بحول الله تعالى لتذليل كل عسير، وسيضيؤون درب الإنسان حيثما كان.

ابني الحبيب اللبيب جميل المحيا، وإن أخذت منك أيام الجب الطويلة، وأثر فيك غباره وترسباته القديمة، وإن مت، فأنت حي فينا بشهادتك ورمزيتك وروحك السارية في الأمة التي أرجو ألا تأفل، ووراءك من أمثالك الكثير ممن يربون على عين خالقهم.

في الأخير، أنتهزها فرصة لتوجيه خالص الشكر لكل أبناء الوطن وخدام الشعب الذين سهروا مشكورين على إخراجك من الجب، لولا أن قدر الله قد سبق واختارك لجواره. شكرا لوحدات الإسعاف والإنعاش، ولمهندسي المسح الطبوغرافي ورجالات الوقاية المدنية وحفار الآبار وغيرهم من سواعد الرجولة.

هي فرصة كذلك لتوجيه نظر السلطات للحسم في مأساة الآبار المفتوحة التي تخلف ضحايا كثر، لتؤمّن بالطرق الملائمة حفظا للأرواح، ودرءا للمفاسد والأضرار.

فرصتنا لتوجيه الطلب الملح والمستعجل لإنقاذ رجالات المغرب المنسي ونسائه وأطفاله، الذين يعانون من الفقر والجوع والبرد والأمية…

وأخيرا وليس آخرا، نم أيها الغالي، قرير العين، واهنأ بجوار ربك المتفضل المنان الذي اختارك إليه لحِكم هو يعرفها، واهنأ بما حققته من مكرمات، فإنا نستودعك الذي لا تضيع عنده الودائع، وربط الله على قلوب والديك وذويك ومحبيك. ولك منا السلام يا معجزة زمانه وشامة خلانه.