يهل المطهر على الأمة هذا العام كما عودنا رب العزة بالبركات والخيرات. فرمضان شهر مبارك من السماء إلى الأرض يجمع فيه الله قلب الأمة على رجل واحد إن هي امتثلت لوصية نبيها في صيامه إيمانا واحتسابا. الأمة مبعثرة الأطراف، وأسرها الصغيرة لا تزال بعيدة عن روح وريحان رمضان العبق بالإحسان والبر والعمل الصالح. أضحى هذا الشهر موسم تسوق واستهلاك وتسابق نحو الربح والمتعة من الفانية. فما نعيشه إدبارا عن الغاية والمقصد الروحي من هذه الشعيرة العظمى، ومن رسالة النبوة الرامية لإنقاذ الإنسان من ضلالة الغواية والغفلة. في وقت تسطر لنا مواقف الرعيل الأول الذهبي والسلف الصالح الأكارم رضوان الله عليهم أجمعين، كيف كانوا يستقبلون الشهر المطهر بتطهير قلوبهم من الهوى وغلبة الدنيا، لتتزين لاحتضان القرآن والذكر والجهاد ومكارم الأخلاق. يحتفون به تسابقا ومسارعة نحو منازل الآخرة. فهل للأسرة عود حميد لربها ونبيها وقرآنها بالمعنى الشامل لا التجزيئي؟ وهل لها من يقظة وانجماع على منهاج نبيها لتَصلح وتُصلح ما أفسدته الفتنة والاستهلاك؟
وكان أبوهما صالحا
في سورة الكهف قابل العبد الصالح صاحب موسى عليه السلام شح وبخل أهل القرية في ضيافتهم بالكرم وبذل الخدمة والمعروف، فشمر على الساعد وأصلح الجدار الآيل للسقوط. قد كان في علم الغيب عند الله الجدار لفتية أيتام. وذكر القرآن أن الأب السابع لهم كان صالحا. تحمل هذه القصة رحمة الله للصبية وفتوة (العبد الصالح) حامل رسالة الحق والتوحيد، لكي لا تضيع حقوق العباد وسط الشح والأنانية. كما يقرأها مسلم الألفية الثالثة في توثق العلاقة بين صلاح الوالدين وحفظ الله لأبنائهم في حياتهم وبعد مماتهم.
قوله تعالى: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف: 82] أفاض فيه علماء التأويل، وتجمع التفاسير على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته كما يروي الحافظ ابن كثير: “وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم” 1. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه عن ابن عباس: “حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح” 2.
إن كلمة الصلاح فضفاضة تشمل زخما لا يحصى من أنواع البر العملي، والقلبي، والخلقي للعبد. تبدأ بعمود الدين الصلاة فرضا ونفلا، وتسري على كل الشعائر والأركان التي افترضها الله عزو جل على عباده. فالصالح من أصلح السريرة للمولى وسلمها له طواعية خالصة. ثم عالج الجوارح بالعمل والجهد والجهاد استباقا للقربات ابتغاء لمرضاة رب العالمين.
هذه المعاني جعلها رب العزة ضمن صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان لمن أراد أن يستفيض فيها نذكر بعضها؛ أصلها القرآن لتكون أسباب استحقاقهم لعبودية الرحمن جل وعلا: التقلل من الدنيا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]. وشدة الإقبال على الآخرة بالقيام والتهجد وإعراضهم عن مجامع اللهو والعبث والتفاهة والملهيات عن الله عز وجل. فلاريب أن يكون تضرعهم لربهم أن ينالوا إمامة المتقين في أسرهم وبين أبنائهم وفي الأمة.
أولاد عباد الرحمن ينالهم من خيرية هاته الإمامة والصلاح ما رسخت أقدام الآباء على أعتاب العبودية الخالصة المخلصة. ومواسم الخير غنيمة، ونحن في رمضان الخير والتسابق للمغفرة والرحمة والعتق من النيران، فرصة تنتفع الأسر ببعضها البعض تأسيا، وتمثلا للقدوة بأن يجعل البيت مصلى ومسجدا يأوي إليه الآباء والأمهات للعبادة والصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء بالليل والنهار. فالولد ترسخ لديه القدوة الفطرية من الوالدين. تحيا معه طوال عمره مهما تمرد أو عاند. فالملاذ الأول والأمثل: البيت، والقائد الرمز تتتبعه عيناه الصغيرتان، وترسخ صورته في الذهن منذ نعومة أظفاره من داخل البيت أبا كان أو أما.
من أجلك يا بني
كان دأب السلف الصالح بناء الآخرة وعمارة الأرض بالصلاح والإصلاح لذا فطنوا للأسرة وريادتها في متانة صرح أمة الإسلام. يجتهدون ويجاهدون النفس والشيطان والهوى والعدى لعمران الأرض بذكر الله وطاعته سبحانه. يروى أن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان إذا عزم على الصلاة بالليل وابنه الصغير نائم بجواره، ينظر إليه قائلا: “من أجلك يا بني، ويتلو وهو يبكي قوله تعالى “وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا”. وكان عبيد الله بن عتبة بن مسعود باع دارا بثمانين ألف درهم فقيل له: اتخذ لولدك من هذا المال ذخرا 3. فقال: أنا أجعل هذا المال ذخرا لي عند الله عز وجل وأجعل الله ذخرا لولدي، وتصدق بذلك المال.
ويطيل سعيد بن جبير الصلاة في الفرض والتطوع لإنبات الصلاح في ولده رضي الله عنه قائلا: “إني لأزيد في صلاتي لولدي” 4. وقال هشام: “رجاء أن يحفظ فيه” 5 نفسه. كان التابعي الجليل سعيد بن جبير رضي الله عنه كثير الذكر لله والآخرة، وهو القائل: “لو فارق ذكر الموت قلبي، خشيت أن يفسد قلبي” 6. علم ساداتنا من السلف الأبرار أن الصلاح يبدأ من ذكر الآخرة والبعث، وأن القلب يفسده طول الأمل وتصلحه خشية الله في السر والعلن. يقول البر المولى تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء: 9]. يعطي الله عز وجل ضمانا للآباء اتجاه ذرياتهم وهو تواجد التقوى، وفيه إرشاد لهم بدوام خشية الله وتقواه في سائر أقوالهم وأحوالهم وفعالهم حتى تحفظ أبناؤهم، وتغاث بالعناية والصون الكريم من رب العالمين.
إن الآباء هم القدوة والمثال والمنبع المدرار لخير الدنيا والآخرة. والأبناء يستقون من ذاك الينبوع في صغرهم وحال كبرهم لا يفترون. فلا يستقيم الظل والعود أعوج كما يقال. ولا تلتحم أواصر الأسرة والقلوب خواء من التقوى. فإن لم يكن الله جامعهم ومسددهم في حركتهم وسكناتهم قيض لهم الشيطان فهو لعمري مشتتهم لا قدر الله. فالمسارعة المسارعة في بسط مائدة التربية الإيمانية القرآنية في أرجاء الأسرة. ولا تغفل الأم والأب عن التأديب والتهذيب بالحال والمقال. وليجتهدوا في ذلك كما يجدون في توفير حاجات الدنيا ولذائذها لهم، وعلى الله قصد السبيل.