ردة ولا أبا بكر لها

Cover Image for ردة ولا أبا بكر لها
نشر بتاريخ

يعيش العالم الإنساني عامة والإسلامي خاصة ردة ما سبق لها في التاريخ مثيل، ردة على كل المستويات وأشدها النفاق السياسي وسيادة منطق الاستبداد. ومن اليقينيات التي تعلمناها أن اختلاف الأجيال يكون فقط في تطور أحوال المعاش، غير أن مبادئ الناس وأخلاقهم تبقى ثابتة لا تتغير.

وتعلمنا أن حركة التغيير إن انحرفت عن الفطرة أخطأت هدف المسير. وأن عقبات التغيير إن خلت من روح الرجولة فقدت مغزاها. وأنه ليس من الرجولة أن تصمت عن الحق حين تطيش أهواء السفهاء.

ومع سكرة الاستبداد مات ضمير الرجولة الحي، واستبدت سكرة الجهل واستعرت نارها، لتقلب موازين الأخلاق وتجعل من الفضائل رذائل ومن الانتصار للمظلوم جريمة. والاستبداد له وجه واحد حالك السواد، وإن اختلفت الأعراق واللغة والدين.

ما تعيشه غزة ويعيشه العالم المسلم اليوم من وحشية عز نظيرها، وحشية وتكالب من القريب والبعيد، يجعلنا نقف ألف مرة لنعرف كيف نتدرب ونتدرب ونتدرب على أن نصنع لأنفسنا مكانا قويا نظيفا وسط ضعف المنهزمين وغدر الظالمين.

صنع المستقبل ومستقبل القوة مصاوَلةً ومطاولةً للمبطلين. صنع تاريخ أمة لتستقي من ينابيع الحق وتستنير بأنواره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّكم على بَيِّنَةٍ من ربِّكم ما لم تَظْهَرْ فيكم سكرتانِ سكرةُ الجهلِ وسكرةُ حبِّ العيشِ وأنتم تأمرون بالمعروفِ وتنهَوْنَ عنِ المنكرِ وتجاهِدونَ في سبيلِ اللهِ فإذا ظهرَ فيكم حبُّ الدنيا فَلَا تأمُرونَ بالمعروفِ ولا تنهوْنَ عنِ المنكرِ ولا تُجَاهِدونَ في سبيلِ اللهِ القائِلُونَ يومئذٍ بالكتابِ والسنةِ كالسابقينَ الأولينَ منَ المهاجرينَ والأنصارِ”. 1

للإمام أبي الحسن الندوي كتاب ينعى فيه حال الأمة جعل له عنوانا: “ردة ولا أبا بكر لها”. فنحن الطيبون كثيرا ما تستهوينا عبرات سيدنا أبي بكر في المحراب، وتنسينا هذه الرقة في خلقه العظيم، الجانب المهم جدا من شخصيته العظيمة:

  • خير من مؤمن آل فرعون صنعت منه المحنة صلابة وقوة في الحق.
  • عالم متبصر بخريطة واقعه، يعرف مكامن الضعف ونقط القوة فيه
  • له شبكة علاقات قوية استطاعت أن تؤلف نخبة من أخيار الرجال على الحق.
  • له استقلال مالي قوي يحسن به إعداد القوة وصناعة رجال التغيير.
  • له خلق عجيب يمزج فيه بين رقة المحراب وصلابة الوقوف في وجه الباطل.

“كان معهم رضي الله عنهم من الانجذاب للإيمان ومن محبة الله ورسوله قوة انتزعتهم من الأهل والعشيرة فهاجروا في سبيل الله ورسوله. ثم قويت محبة الله ورسوله في قلوبهم فواجهوا في ميدان مصارعة الباطل بالحق الأب والأخ والأعمام والأقارب.” 2 وكثير اليوم في جبهات الباطل من الأقارب من هم عقارب.

ودائما نحن الطيبون نحكم بحسن نياتنا على من ينتمون لنا عرقا ولغة ودينا أنهم القوة والسند، لأن الدم الذي يوحدنا يقول إننا إخوة، والتاريخ الذي يجمعنا يقول إن مصيرنا واحد، والدين الذي يؤلفنا يقول إننا جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

ومرارة الخذلان في وقت الشدة قاتلة، من الأقارب الذين لبسوا لك ثوب النفاق والبأس الشديد المجمل بالبياض.

وسيدنا أبو بكر يجب أن يكون مثالا ومثلا لما يجب أن نكون عليه.

هذا هو الوجه المشرق من سيرة الأسياد الذي يجب أن يكون عليه العلماء ورثة الأنبياء ويربوا عليه الجيل الصاعد من الأمة لإعداد الغرس، فمن كان تحت جلبابه الأبيض وعمامته الناصعة، إيمان خلق، وفكر رث، وتصور ورائي للدين، كيف يكون للأمة منقذا؟!

الرجال الضعفاء يصنعون أياما صعبة، والأيام الصعبة كما قال ابن خلدون تخرج رجالا أقوياء، والرجال الأقوياء يصنعون العدل والترف والرخاء. فلا تكن حملا وسط الوحوش، تعلم صنعة القوة حتى لا تصيبك سهام الظالمين في مقتل. فأنت النقص كله مع لذات الدنيا، وأنت الكمال كله مع آلامها.

 


[1] رواه الهيثمي في مجمع الزوائد: 7/273.
[2] مقال منشور في موقع الجماعة بعنوان: المؤمنات وطلب الكمال القلبي والعلمي: محبة الآل والصَّحْبِ، الرابط: https://aljamaa.net/posts/المؤمنات-وطلب-الكمال-القلبي-والعلمي-م-3