رجال القومة والإصلاح وبناء غد الإسلام الموعود

Cover Image for رجال القومة والإصلاح وبناء غد الإسلام الموعود
نشر بتاريخ

اشتد السقم على الأمة وتكالبت عليها الأمم من حمل تاريخ الفتن شرقا وغربا، شمالا وجنوبا.

قال حبيب الحق وسيد الخلق في حديث له: “إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا؛ كتابَ اللهِ وسنتِي” (رواه الإمام مالك).

كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه أبو نعيم في حليته من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب”.

يوضح لنا حبيب الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الأول عن مدى تلازم القرآن والنبوة الشريفة، في بناء  الأمة الإسلامية وجمع الشتات الإسلامي، فقد كانت حياته وحياة الصحابة رضوان الله عليهم مثالا حيا لهذا التلازم.

أما في الحديث الثاني؛ فقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كتاب الله وقيادة المسلمين كانا مرتبطين ارتباطا وثيقا، حيث إن القائد المسلم يدور على قاعدة الكتاب كما يدور حجر الرحى على قاعدته الثابتة، هذا جزء الحديث الأول لكن تتمة الحديث توضح أن هذه الرحى ستنحرف عن مسارها عندما يدور ذلك القائد على غير قاعدة الكتاب، حينئذ تنفصل الدولة عن الدعوة.

بعد 30 سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدث الانكسار الأكبر الذي ابتليت به الأمة الإسلامية، فقد جاء من أعلنها صريحة: “أنا آخر خليفة وأول ملك”. أطاح الانقلاب الأموي الغاشم بالخلافة الراشدة وأسس الملك العاض. خاصم السلطان القرآن، وأبعد رجال الدعوة والشورى والإصلاح وفرسان الفتوحات إلى الهامش. “ليدوروا حول إرادة الحاكم بالسيف والوراثة والعصبية” (1).

هنا يطرح السؤال: كيف نعيد للرحى توازنها؟ ومن يعيد ذلك التوازن؟ وما موقف رجال الأمة الإسلامية من هذا الانكسار؟

بالنظر إلى تاريخ الأمة الإسلامية والإصلاح نجد أن رجال الدعوة في علاقتهم مع الحاكم انقسموا إلى قسمين؛ من يقوم ضد الحاكم ويحاول تغيير الأوضاع ويعيد للرحى توازنها بحيث تدور حول القرآن كالسابق، ومن يحاول الإصلاح حسب ما تتيحه هوامش الحكم. وتجدر الإشارة إلى أن الفريقين لا يندرج تحتهما  “الثوار” الخارجون على الحاكم بالباطل ولا “فقهاء البلاط” الطالبين للمال والجاه والحظوظ الدنيوية، إنما هما اجتهادان لرجال الدعوة وبناء الأمة الإسلامية.

فما هي القومة كخيار لبعض علماء الأمة في مواجهة السلطان؟

وما هي حقيقة الإصلاح الذي تنشده الفئة الأخرى من رجال الدعوة؟

مفهوم القومة

هي كلمة متجذرة في كتاب الله تعالى، فقد وردت في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (الجن، 19). وقوله عز وجل: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ (المائدة، 9). وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا (سبأ، 46).

وهي كلمة أطلقت في التاريخ الإسلامي على المنابذين “للحكم الجائر من أهل العدل والحق” (2). لترتفع مكانة هذه الكلمة بما تحتوي من المعاني العظيمة في كتاب الله وسنة رسوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، فَقَتَلَهُ” (أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنه). أنعم بها من مكانة؛ هذه المعاني الجامعة بين الشهادة والقومة.

وقد شهد التاريخ عدة قومات، منها قومة الإمام الحسين السبط عليه السلام.

لهذه القومات رجال من الطليعة المجاهدة التي قادت الأمة نحو التغيير ولم الشتات. هم رجال قرآنيون نبويون صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، من الأمة وإليها ومعها، لا ليفعلوا بها، بل ليوقظوها ويربوها حتى تصبح فاعلة، هم “رجال القومة والإصلاح”، هدفهم أن يجمعوا الشتات ويزيحوا الخمول ويساهموا في صحوة الأمة، صحوة بأوتادها ليكونوا ركيزة البناء الجديد، إذ لابد لأي بناء من صرح وقاعدة بشرية قائمة بذاتها. لذلك لا بد للأمة الإسلامية من طليعة؛ مجاهدة، قوية، متماسكة، موحدة، تدافع عنها وتحمل معها وتجسدها في الواقع. قبل كل هذا لابد لكل قائم أن يحقق قومة على نفسه، “وتغيير دوافع الإنسان وشخصيته وأفكاره، تغيير نفسه وعقله وسلوكه، تغيير يسبق ويصاحب التغيير السياسي الاجتماعي” (3).

ولكي تكون قومة إسلامية على نمطها الأول قبل الانكسار، لابد من مرور كل مؤمن من مدرسة الشدائد؛ يتربى فيها تربية تمكنه من الانقطاع عن ماضيه السيء ومألوفات حاضره وراحته وعلاقته بكل ما يشده إلى الأرض وشهواتها، ليرتبط بموعود الله عز وجل، ولتملأ جوانحه محبة الله والشوق إلى لقياه، فتهون عليه النفس وما دونها من بذل المال والجهد.. ومن هذه المدرسة مر المهاجرون والأنصار أفرادا، حتى آن أن يجتمع منهم جند الجهاد، تسري فيهم روح الجماعة، بعد أن أصبحوا تنظيما مرصوصا قوي الارتباط بأمر الله تعالى.

رواد القومة

دعاة إلى الله، الطليعة المجاهدة التي تناهض الملك العاض والجبري، وتناهض القومة المسلحة والمقاطعة الصامتة، أولهم الصحابة رضي الله عنهم، والقائمون من آل البيت، ثم رجال القومة والإصلاح على مر تاريخ المسلمين ومن سيأتي بعدهم. روى أحمد والطبراني والحاكم حديثا صحيحا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ اللَّهَ يبعَثُ لِهذِه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سَنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها”.

سلسلة رجال القومة والإصلاح لم ولن تنقطع في الإسلام، يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: “من الحقائق التاريخية أن تاريخ الإصلاح والتجديد متصل في الإسلام، والمتقصي لهذا التاريخ لا يرى ثغرةً ولا ثلمةً في جهود الإصلاح والتجديد ولا فترةً لم يظهر فيها من يعارض التيار المنحرف، ويكافح الفساد الشامل، ويرفع صوت الحق، ويتحدى القوى الظالمة، أو عناصر الفساد، ويفتح نوافذ جديدة في التفكير” (4).

حال الأمة مع المصلحين

أشد ما كان يخشاه حكام الجبر أن تتقوى شوكة رجال القومة والإصلاح بالأمة، الشيء الذي دفع الملوك ليضطهدوا المصلحين ويعذبوهم ويقتلوهم، ولنا المثال الناصع في الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قلده عبد الملك بن مروان أمر عسكره وولاه أمر مكة والمدينة والطائف وأضاف إليها العراق والكوفة، وكان سَفَّاكاً سَفَّاحاً باتفاقِ معظم المؤرّخين، عُرف بـالمبير أي المُبيد (5). فعشش الخوف والرعب في سويداء قلب كل من سولت له نفسه التعاطف مع رجال القومة والإصلاح. وقد ذكر الطبري كيف حارب هشام بن عبد الملك أنصار الإمام زيد بن علي، حيث أمر عامل الكوفة بقمع القومة بين أفراد الأمة، “فادع إليك أشراف أهل المصر وأوعدهم العقوبة في الأبشار واستصفاء الأموال، فإنَّ من له عقد أوعهد منهم سيبطىء عنه ولا يخف معه إلاَّ الرعاع وأهل السواد ومن تنهضه الحاجة (..) فبادرهم بالوعيد، واعضضهم بسوطك وجرِّد فيهم سيفك وأخف الأشراف قبل الأوساط والأوساط قبل السفلة” (6). من هذا القول نستنتج أن دعوة الإمام زيد جمعت على كلمة واحدة طوائف الأمة، وأن ملوك الجبر يسلكون منهج “فرق تسد”.

حقيقة الإصلاح

لب الإصلاح ومداره هو التربية على صناعة دولة القرآن، ومنهجه الانتقال من مكان إلى مكان وترك العشيرة والمال.. والصدع بالحق والثبات عليه ونبذ الخوف.. لمواجهة السلطان. تربية مؤداها ميلاد مجتمع جديد وتضامن على أساس جديد، وتلاحم شديد، ينشد شعار مستقبل دعوة الله في الدنيا والفلاح في دار النعيم. فيظهر جيل من المنيبين التوابين المتطهرين، الذين يحبهم الله تعالى، وينصرهم، ويعينهم، ويسدد رميهم. على وجود هؤلاء تتوقف حركة الإصلاح والتغيير، وبدونهم يكون العمل بدون أساس متين. “إعلان التوبة اعتزاز وقوة، لا يطيق السائرون مع القطيع الذليل الخاضع للأوضاع المنحطة أن يتحملوا مشهده وخبره. إعلان التوبة استقلال، وتحد للضغوط الاجتماعية، وانسلاخ من الوَلاء لغير الله ورسوله وقرآنه وشريعته” (7). 

بالتوبة تتجدد روابط الولاية التي دعا إليها القرآن الكريم وحثت عليها السنة الشريفة، وبها نرتفع إلى مرتبة المسئولية عن أنفسنا وعن العالم. فـ”نحن الآن ننتمي لعالمية مقلدة، مثلنا الأعلى جاهلي، ودواعي التقليد في نفوسنا هي دواعي الإعجاب بالسيد المتفوق، ومظهر تقليدنا تبعية خانعة. والإسلام يرفعنا إلى عالمية المسؤولية عن أنفسنا ليربطنا نحن الأمة الممزقة بين القوميات رباط الولاية والمحبة، ثم يرفعنا إلى عالمية المسؤولية عن الأرض ومن عليها. فحركة التوبة إلى الله حركة تغيير تربوي رائدها التطلع لقيادة العالم عبر الجهاد للاستقلال عن الجاهلية استقلالا يوحدنا بعدما فرقتنا فتنة التاريخ وقصرتنا في القوميات” (8).

وفي هذا أسوة لغد الإسلام ودولة القرآن، مغزاه ومرماه أن تكون إعادة القسمة وإعلان عدل الإسلام ورخاء الإسلام القاعدة المادية لبناء دولة الإسلام، فقد كان القرآن والسنة الشريفة مصدر تأسيس القاعدة الاقتصادية، بعد وضع دستور ينظم قواعد السلطان ومسؤولياته، وأمور الأمن، وعلاقات المسلمين فيما بينهم، وعلاقتهم بأهل الذمة، وعلاقتهم بعدئذ بالعالم..

ونحن نعيش في ربوع الأوطان العربية أشد الشدائد المهولة التي تعتصر قلوب المؤمنين وتربيهم، لنا اليقين أن الله سبحانه وتعالى سيخرج لنا بمشيئته من هذه المحن رجالا من ذلك الطراز. رغم ما يبدو لنا أن بعض الشدائد قاتلة، لكن من ورائها دروس الشدة والرجولة إن شاء الله. ولعل فتك الجبابرة يوقظ ولو بعد حين غيرة هذه الأمة.


(1)  عبد السلام ياسين، سنة الله، ط 2005/2، مطبعة الخليج العربي – تطوان،  ص 21.

(2)  عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ط 2022/5، دار إقدام للطباعة والنشر – إستانبول، ص 396.

(3)  عبد السلام ياسين، رجال القومة والإصلاح، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 9.

(4)  أبو الحسن علي الحسني الندوي، رجال الفكر والدعوة في الإسلام، ص: 26.

(5)  جاء في العقد الفريد لابن عبد ربه أن أسماء بنت أبي بكر قالت للحجاج: “سَمِعْنا رسولَ اللهِ يقول أنه يَخرجُ من ثقيف رجلان، الكذَّاب والمُبِير. وأما الكذَّاب فقد رأيناه، وأما المُبِير فلا أظنُّه سِواك”.

(6)  تاريخ الرسل والملوك، الطبري، ج 8، ص 226. 

(7)  عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 1، ص 268.

(8) عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، ط 1973/1، مطبعة النجاح – الدار البيضاء، ص 609.