جلست تحت ظل تلك الشجرة المورفة المتواجدة فوق الربوة العالية بقريتها النائية. أصبحت عادة مسائية مقدسة لديها، لابد أن تقدم قرابينها اليومية قبل عودتها بقطيع غنمها.
نظرات الحزن تلف مرآها، وحنين الأمس لا يغادر فكرها، تراودها ذكريات طفولتها كلما علت هذه الربوة وأطلت بناظريها على الممرات الضيقة الوعرة التي يقطعها أطفال القرية جيئة وذهابا إلى المدرسة .
كم يتمزق قلبها وتنهمر دموعها كلما عادت بمخيلتها إلى الوراء، حيث كانت تخطو هي الأخرى نفس خطوات هؤلاء الطفلات الصغيرات، كم كانت تلك الأيام جميلة رغم الصعوبات ورغم العقليات التي كانت تقتحم عليهم فرحتهم وترفض ذهابهم للمدرسة بحجج واهية..
رحمة، هذه الفتاة التي أرغمت على مغادرة مقاعد الدراسة بعد أن حصلت على أعلى معدل بين قريناتها، بل أعلى معدل على صعيد مؤسستها الثانوية الإعدادية، ليتم تتويجها ضمن المتفوقين والمتفوقات، ما زال يوم التتويج والبهجة التي سادت الحفل البسيط الذي أقيم داخل المؤسسة عالقا بذهنها، وما زالت كلمات أستاذة مادة علوم الحياة والأرض ترن في أذنيها: “استمري رحمة، فسيكون لك شأن عظيم”.
لم تكن المسكينة تعلم أن حفل التتويج هذا سيكون ختام مسارها الدراسي، ونهاية أحلامها وأحلام طفولتها، التي تحطمت فوق صخور العادات والأعراف التي تمنع على الفتاة إتمام دراستها بحجة بُعد المسافات وقلة ذات اليد، فأنّا لأبويها البسيطين أن يستطيعا تحمل مصاريف الدراسة بعد انتقالها إلى المدينة؟ وكيف لفتاة أن تسافر وتستقر بعيدا عن أهلها؟
تذكرت يومها حين تقدم مدير المؤسسة إلى والدها وهنأه على نجاحها وتفوقها وشجعه على ضرورة مساعدتها لإتمام دراستها، لتسمع الكلمات التي ما زال أثر طنينها يرن في أذنيها وكأنه اليوم، رغم مرور سبع سنوات عجاف أكلت الأخضر ولم تذر. “كفى من الدراسة والتعليم. آن الأوان أن تخرج لمساعدتنا في البيت وأشغاله، ينتظرها رعي الغنم، وسقي الزرع..”. هكذا كان جواب أبيها، وبه ختم حفل تتويجها. انتهي حينها حلمها بتحقيق ما حققته ابنة عمها بالمدينة، اسودت الدنيا أمام عينيها ولم يعد يحلو لها طعم .
تنبهت رحمة إلى صوت غثاء أغنامها، فلملمت نفسها وقطعت شريط ذكرياتها المؤلمة، ومسحت ما انسكب من عبرات فوق وجنتيها، ثم نهضت متلفتة حواليها؛ أين غنيماتي؟ فقد حان موعد العودة.
التقطها صوت هاتفها الداخلي من جديد قائلا : “ما بك رحمة؟ ألن تنسي أو تتناسي؟ ارضي بقضائك، فأنت مجرد فتاة قروية سيظل مرسوم على صفحات مستقبلك “راعية غنم””.
صاحت محدثة نفسها بصوت مسموع وقد أعياها التحسر: “يا رب أنر دربي، واهد المسؤولين في بلدنا ليلتفتوا إلى حالنا، وحال مدارسنا بالقرى والمداشر، يا ليت أحدهم ينتبه لمعاناة ومأساة تمدرس الفتاة القروية..”.