“رابعة” الإجهاز على الديمقراطية

Cover Image for “رابعة” الإجهاز على الديمقراطية
نشر بتاريخ

مرت سنتان بسرعة، لكنها لم تنجح في أن تنسينا جريمة مرت بمصر، رابعة التي قتل فيها أزيد من 2600 متظاهر سلمي حسب المستشفى الميداني الذي أقيم آنذاك، والذين ذبحوا وأحرقوا بدم بارد أمام قوى داخلية “متلونة” اختلط فيها الانتهازي بالصادق و”غرب” مزدوج المعايير، يلتفت لمصالحه ويرعاها، ويترك المجال لمنظمات “مستقلة” تبيض ماء وجهه، وتصدر الإدانات وتوزع المسكنات، ليستعملها هو للضغط على ذات الأنظمة لمزيد من ملايير النفط وطائرات “الرافال” والفوز بصفقات حفر تفريعة السويس وهلم جرا من الشراكات النفعية الاقتصادية، ولتمت كل الشعارات.

وتعجب أنت من رؤساء دول غربية يسارعون إلى مسيرة باريس شاجبين ومستنكرين في جريمة شارل إيبدو، دون أن يكون لهم نفس الرد والتفاعل تجاه رابعة.

ميزان دولي “منافق”!

مجزرة أقبح منها وأجرم وأفظع، ذبح الوطن ووأد الثورة، والإجهاز على الديمقراطية على يد بنيها، يوم تنكروا لكل شيء واختاروا الانقلاب العسكري، بعد انتخاب أول رئيس مدني، أفرزته صناديق الاقتراع، يوم اختلفت التآويل والتحاليل والآراء حول حصيلته السياسية والاجتماعية، فما كان على معارضيها والمختلفين مع “التجربة” إلا سلك نفس الطرق السياسية الجادة بعد استكمال بناء المؤسسات الدستورية من برلمان ولجان والتدافع على أساس البرامج والمشاريع والدفع باتجاه استبداله عبر نفس “الآلية”، لكن المأساة وقعت، بضوء أخضر دولي وإقليمي وداخلي، وإشراف وشراكة إسرائيلية وازنة، لم يكن العسكر إلا واجهة تصريف وتنفيذ.

لا يراد للإسلاميين ولا للثوار عموما أن ينجحوا أو يسمع لهم صوت لأنهم بذلك قد يكونوا “نموذجا” لشعوب الجوار ومصدر إزعاج لأصحاب القرار، وزرعت الأشواك وانطلقت الدعاية الرسمية الكاذبة، وطبخت الملفات والقضايا، ودشنت الاعتقالات والتصفيات دون محاكمة، وضيق على حرية الصحافة، وعطلت المؤسسات، وتحول السيسي إلى القائد الملهم والمشرع والقاضي والإمام والاقتصادي الأول وهلم جرا من الصفات الخرافية البائدة، “سبيرمان” زمانه ومفتاح المعضلات، وصنعت مصر طاغوتا آخر ينضاف إلى بقية الجوقة العربية، فصار بكل أزلامه وأقلامه ونخبته وممثليه نكتة المجالس وأضحوكة المنتديات والمؤتمرات.

رابعة، لم يفتح في حقها تحقيق دولي مستقل، ولم يحاسب الجناة، وطوت أمريكا وأوربا وروسيا الصفحة، لتتعامل مع الانقلاب بشكل عادي، لتستمر بذلك المهزلة، ويذهب الدستور والبرلمان إلى الجحيم، وتخرس كل القوى التي تدثرت زمانا بكل “الألوان” الحداثية المستمدة من فلسفة الأنوار، وتختفي من الساحة، ويخفت نجم باسم يوسف “فارس” السخرية أيام مرسي، ويغيب كل الذين كانوا صوتا وسوطا ضد الإسلاميين في عهده، ويا ويل من ينبس ببنت شفة.

لست معنيا بالأشخاص ولا ممن يروجون لفصيل سياسي بعينه، بقدر ما أنني من منطلق إنساني وحقوقي أدين الجريمة وأطالب بالمحاسبة العادلة وبمحاكمة الفعلة، وأذكر بالمشترك الذي قد يعيد جمع القوى “الفاضلة” على تعددها إلى إعادة التفكير وبناء التواصل وتصحيح الوجهة، أدعو لصوت العقل والحكمة والرزانة والقوة لا العنف، لتدبير الاختلاف بعيدا عن الفكرة العسكرية والأمنية المقيتة، أدعو إلى دولة الحق والقانون التي تعلو فوق الانتماءات والاصطفافات، أدعو إلى الدولة المدنية التي تتنافس فيها المشاريع المجتمعية الواضحة، وترجع الجيش إلى ثكناته، تضمن حق الاختلاف للجميع، وتدبر الحياة السياسية، بقضاء مستقل ومجتمع مدني واع ومتماسك، ومعارضة مسؤولة وصادقة، دولة تكون أمينة على المال العام قوية في وجه الإكراهات الداخلية والإقليمية والخارجية.

أليس العرب جديرين يوما ما بتصدير المثال وإعطاء النموذج وفرض القرار دوليا والانتصار لمبادئ حقوق الإنسان بعيدا عن الإملاء ومد اليد للاستجداء؟