بقلم: محمد البرّاق
لعلّ نظرة متبصّرة فيما أصدرته جماعة العدل والإحسان بخصوص مدونة الأسرة والتعديلات الجارية على نصّها، والتحليل الفاحص للخطّاب الذي صدّرته والمواقف التي قالتها والاقتراحات التي تقدّمت بها، يقف بكل منصف عند البعد الإجماعي الذي حكمها والاتزان الذي طبعها.
لقد كان لافتا أن مجمل ما أصدرته الجماعة؛ بدءا من بيان مجلس الإرشاد المرجعي ومرورا بورقة المنطلقات وكذا حوارات وكتابات القيادات والأطر وانتهاء بوثيقة التفاصيل، خرج من محبرة واحدة واتسم بالانسجام الشديد وانضبط لفلسفة ناظمة وروح جامعة.
وقبل أن ندقق في هذه الكليات التي حكمت موقف العدل والإحسان، لا بأس من الإشارة إلى مسألتين هامتين:
الأولى: أنها المرة الأولى التي تنخرط فيها الجماعة بهذا المستوى من التفصيل في قضية تعديلات قانونية تهم مدوّنة الأسرة، بعد أن كانت تصدر سابقا مواقف كبرى وتقترح مداخل عامة ترى أنها لازمة لكل إصلاح جاد. وهو التحوّل الذي يشير إلى تطور مطّرد في منهج العمل، حافظ على مبدأ التّشديد على المنطلقات الرئيسة دون التخلي عنه أو إهماله، وأضاف إليه جرعة الدخول في التفاصيل والخوض في الإشكالات، بما يُعزّز القوة الاقتراحية الباحثة عن مصلحة الاجتماع المغربي، وبما يعكس نضجا متزايدا في عمل لجان ومؤسسات الجماعة.
الثانية: رغم أنه تم إقصاء الجماعة مُجدّدا ولم يُستمع لرأيها في الموضوع من قبل السلطة، وهو الشيء الذي قد يراه البعض منطقيا بسبب موقفها السياسي الرافض لمرتكزات النظام الحاكم وبنيته السلطوية ولعبته السياسية، آثرت -رغم ذلك- عرض رأيها وتقديم مقترحها للرأي العام وطرحه على العموم، بهدف الإفادة منه والنظر فيما يمكن أن يؤخذ منه بما يعزز المنظومة التشريعية للأسرة، وبما يجوّد العلاقات بين أفرادها ويضمن الحقوق ويرسخ القيم الأصيلة.
وهو لعمري منهج يتسّم بالرشد الشديد الذي يدفع صاحبه إلى تجاوز حساسيات الموقف السياسي المباشر والبيني بين الدولة والفاعل المعني، منهج يروم توسيع دائرة المعنيين والمخاطبين والمتدخلين ليجعلهم فاعلين مجتمعيين ورأيا عاما، ويبحث صاحبه عن المصلحة الوطنية الجامعة حتى وإن لم يتصدّر هو المشهد وتنسب إليه الاقتراحات.
أما إذا رجعنا إلى الكليات الجامعة التي نظَمت الطروحات والمقاصد الأساسية التي تحكمّت في الموقف والخطاب والاقتراح، فيمكن الوقوف عند ثلاثة منها بارزة:
الأولى: المنطلق الأساس غير الغامض: اتسم المنطلق الذي حكم عرض الجماعة بالوضوح الشديد، فهو يتأسس على مرجعية إسلامية صريحة في تأطير العلاقات الأسرية، ويدعو إلى الاحتكام إلى أحكامها السمحة والمتوازنة، ولم يقبل بأي شكل تجاوز القطعي الثبوت القطعي الدلالة منها. غير أن عرض الجماعة كان متوازنا حين دعا إلى الأخذ بأفضل الاجتهادات الفقهية وأكثرها تناسبا مع واقعنا المعاصر، بل والاجتهاد الجديد الجماعي لاجتراح أجوبة فقهية ملائمة للنوازل الجديدة.
وعلى ذات الشفافية، وفي الوقت الذي أكدت فيه العدل والإحسان أنها تنطلق من الأصول الدينية والخصوصيات الثقافية والأعراف المحلية في التعاطي مع الإشكالات التي تعترض البُنى المغربية وعلى رأسها الأسرة، رافضة الطروحات الحداثية الجاهزة المستوردة الناشئة في بيئات أخرى مغايرة ومباينة لبيئتنا العربية المسلمة، شدّدت على أنها مع كل جديد مفيد لا يتعارض مع أصل وجودنا ومغزاه كأمة وشعب، منوّهة إلى الانفتاح على ما جادت به التجربة الإنسانية خاصة في الجوانب المادية والتقنية التي تسهل حياة الأسرة وأعضائها وتسهم في نماء المجتمع ورفاهه.
الثانية: الاقتراح المتزن غير الجانح: في وثيقتها المعنونة بـ”مدونة الأسرة.. وجهة نظر جماعة العدل والإحسان في قضايا تفصيلية”، التي خاضت في بعض تفاصيل المدونة والإشكالات المرتبطة بالأسرة ونقاط الخلاف المراد تعديلها، كان طرح الجماعة مُتَّزنا، باحثا بحق عن المصلحة المجرّدة، مراعيا عدم وقوع الضرر على أحد أطرافها، منتبها إلى خصوصيات وضع المرأة وضمانات حماية الأطفال، ميّالا إلى الحفاظ على كيان الأسرة وتعزيز وجوده ومكانته، مقترحا باتزان من غير أن يجنح ذات اليمين أو ذات الشمال بما يختل معه ميزان العدل والحكمة والمصلحة.
فحين نظر خبراء الجماعة، مثلا، في الأموال المكتسبة، حكم الاتزان والتوازن تقديرهم للأمور، حتى لا يخرج المجتمع من الإفراط إلى التفريط، فتضيع حقوق المرأة المالية أو يحصل العسف على كسب الرجل. وهو الاتزان الذي استدعت من أجله الوثيقة: القياس على مؤسسة الكد والسعاية، ودور العدل لحظة توثيق عقد الزوجية، والدعوة إلى تيسير وسائل الإثبات، والنظر إلى كل ذلك ضمن نسق المكارمة بين الزوجين والغاية من تأسيس الأسرة والإعلاء من قيم التراحم والمودة والفضل التي تضبط العلاقات. وحين تطرقوا إلى مسألة “تزويج القاصر” لم يروا في دعوات إلغاء هذا الاستثناء إلا بابا قد يَحرم من توفّرت فيهم شروط معينة لازمة من الزواج والإحصان، وفسحا للمجال للانحراف الأخلاقي والفساد. لكنهم نظروا إلى الشق الثاني من المسألة، فطالبوا بوضع حد أدنى لهذا الاستثناء (16 سنة) انسجاما مع سن الرشد الجنائي حتى لا يتدحرج الأمر إلى تزويج الأطفال، وشرطوا ذلك بجملة ضمانات من مثل: البحث الاجتماعي، والخبرة الطبية، وتقارب السن، والاستماع المنفرد للقاصر، وأناطت مسؤولية وأمانة ذلك برقبة القاضي باعتباره جهة مُحكِّمة وطرفا محايدا.
منطق التوازن غير المجنح هذا، نظم آراء العدل والإحسان في باقي المسائل من تعدد وطلاق وحضانة وإرث ونيابة شرعية… وغيرها.
الثالثة: الخطاب الهادئ غير المفرّق: في الوقت الذي اقتضت المسؤولية وضوحا لا مواربة فيه في المنطلقات والأطر المرجعية الضابطة للاقتراح، ودعا فيه داعي المصلحة المجرّدة -الباحثة عن خدمة كل الأطراف بالعدل الذي أمر به الحق سبحانه وتعالى- انضباط الاقتراحات للتوازن الذي يجافي الاختلال والاتزان غير الجانح، تزيّي خطاب جماعة العدل والإحسان، في كل الوثائق التي أصدرتها بخصوص المدونة، بمسحة واضحة من التقريب في العرض والهدوء غير المفرّق في التناول.
في بيان مجلس الإرشاد مثلا جاء التأكيد “إننا مع إصلاح وطني توافقي لمدونة الأسرة، غير متناقض مع الثوابت الدينية في شرعنا الإسلامي الحنيف، ويدار بشكل ديمقراطي ويخضع لنقاش مجتمعي وعمومي شفاف ومسؤول”، وفي ورقة المنطلقات تم الحث على أن “يبقى الغرض هو الإسهام -رغم التباين في المرجعيات الفكرية بين الأغيار المتدافعين من داخل هذا الورش الإصلاحي- في بناء مقاربة متكاملة غايتها حفظ قيم الفطرة، وحفظ حقوق الإنسان، ثم حفظ وظيفة الأسرة التاريخية”، وفي الوثيقة الأخيرة تم التقديم للتفاصيل بالتشديد على أنها تنطلق “من مرجعيتها الدينية… وعلى القوي مما خلفه علماؤنا في الفروع والأصول، دون إغفال ما توصلت إليه الحكمة البشرية من حلول ناجعة متعلقة بالأسرة، جامعة بذلك بين قدسية النص وحكمة العقل، تاركة ما شذ من أقوال في الفقه أو انحسر من اجتهادات من سبقونا”.
وقد كانت الدعوة صريحة واضحة، على مدار انخراط الجماعة في هذا الورش، مُوجَّهة إلى مختلف الأطراف وحساسيات المجتمع وفاعليه وقواه المدنية والسياسية والمجتمعية إلى استبعاد لغة الإيديولوجيا ونبذ منطق الغلبة، والاعتصام بخطاب الإجماع ولغة التقريب، والبحث الجاد الصادق عن أفضل الحلول وأجود الصيغ للأسرة المغربية.
إن هذه المنطلقات الثلاثة، بقدر ما تعكس حرصا صادقا على مكونات الشعب المغربي ونسيجه الاجتماعي وفي القلب منه نواته الأساس “الأسرة”، تؤكد أننا أمام مكوّن مغربي خالص وفاعل وطني أصيل، يجنح منهجه ومقصده إلى الحكمة التي هي رأس الأمر والاتزان الذي يروم التقريب.