كلمة الأمين العام الافتتاحية لندوة “المغرب وسؤال المشروع المجتمعي”

Cover Image for كلمة الأمين العام الافتتاحية لندوة “المغرب وسؤال المشروع المجتمعي”
نشر بتاريخ

بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

طبتم وطاب مجلسكم.

أسأل الله سبحانه وتعالى عز وجل في هذه اللحظات أن يجدد الرحمات على صاحب الذكرى، وإخوانه وأخواته الذين سبقوه إلى الدار الآخرة، والذين لحقوا به، أسأل الله تعالى عز وجل أن يرحمهم جميعا، وأن يلحقنا بهم مسلمين محسنين تائبين، غير مبدلين ولا مغيرين، ثابتين على الحق، حتى نلقى الله عز وجل وهو عنا راض.

يقول الحق سبحانه وتعالى عز وجل: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنهلك وفينا الصالحون؟” كان جوابه: “نعم إذا كثر الخبث”.

كان الإمام المجدد رحمه الله سبحانه وتعالى عز وجل يزين وجه مجلة الجماعة بالآية الكريمة التي في هذا المعنى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ. آية فيها بشارة وفيها نذارة؛ فيها بشارة للمستضعفين أن الله تعالى عز وجل سينصرهم ويمكنهم، وفيها وعيد للجبارين المستكبرين؛ أن نهايتهم إن لم يتوبوا الهلاك والدمار.

سُقت هذه الآيات لأتساءل مع السائلين سؤال حرقة وشفقة: أين يتجه المغرب؟ ألم يان للقائمين على شؤونه أن يعلموا أن سياستهم المتبعة بان عَوَرها، وأن الحلول الترقيعية؛ من تغيير لدساتير ممنوحة، ومن انتخابات مزيفة، ومن حكومات تتعاقب على السلطة بدون سلطة، ومن ديمقراطية شكلية، صنعت لتلميع وجه المغرب في الخارج، أما في الواقع الداخلي فلا صوت يعلو فوق صوت التعليمات، ومن مبادرات للتنمية فاشلة، هذه السياسة لم تعد تجدي نفعا في علاج المشاكل المتفاقمة، لماذا؟ لأن الظلم ازداد استفحالا، والفقر دائرته تتوسع يوما بعد يوم، لأن ثروات البلاد تنهبها فئة قليلة من المتنفذين الفاسدين، والمطالبون بحقوقهم يُقمعون ويمنعون، ويزج بهم في غياهب السجون. والوضع الاجتماعي مأساوي؛ فظاهرة البطالة والمحسوبية والزبونية والرشوة والدعارة والانتحار أصبحت حديث المجالس، أما التعليم والتطبيب فحدث عن فسادهما ولا حرج، والأئمة الصادقون زحزحوا عن المنابر، وفسح المجال للوعظ البارد المنوم المدجن المراقب. ومما يزيد الطين بلة ما نعيشه هذه الأيام، من اختراق صهيوني لكل مجالات حياتنا، بالإجهاز على ما تبقى من قيم المجتمع ومقوماته ومبادئه.

فهل من تدارك للأمر قبل فوات الأوان؟ وهل من سبيل للخلاص؟

إن الإمام المجدد الذي نحيي ذكراه التاسعة أرّقه ما يعانيه بلدنا من ويلات، وما يتخبط فيه من مشاكل. وأرقه ما تعانيه الإنسانية جمعاء، لأن مشروعه مشروع إنساني بمعنى الكلمة. وبعد انطراح بين يدي الله تعالى عز وجل وتبتل وعكوف أياما وليالي وشهورا، بل أعواما؛ يستخير الله تعالى عز وجل ويستلهمه السداد والرشاد والصواب، ألهمه الله سبحانه وتعالى عز وجل لوضع خطة محكمة، فيها خلاص للفرد وللجماعة وللأمة، أمة الإجابة وأمة الدعوة، من شأنها إن شاء الله تعالى عز وجل، أن تسهم في إنقاذ البلاد والنهوض به من هذا الوضع المزري.

هذه الخطة؛ المنهاج النبوي، مشروع العدل والإحسان، لا يزعم لنفسه الكمال والعصمة، فصاحبه وضعه للمدارسة والمناقشة، والأخذ والرد، والتعقيب والتصويب. ولكني أزعم أنه يملك من مقومات النجاح ما ينافس به المشاريع الأخرى. أذكر بعضا منها، لأن الوقت لا يسمح للاستفاضة في هذا الباب، مشروع ضخم كتبت فيه عشرات الكتب لا يمكن تلخيصه في دقائق.

أولا- أن صاحبه استوحاه من القرآن الكريم، بعد أن اصطبغ بالقرآن الكريم، والقرآن كما تعلمون، يهدي للتي هي أقوم في جميع شؤون الحياة.

نَسجه على الهدي النبوي، والهدي النبوي رحمة ونور وخير للعالمين، الهدي النبوي لا يزيغ عنه إلا هالك؛ “تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك”، إذا من سار على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجح وأفلح دنيا وأخرى.

هذا المشروع هو ثمرة اطلاع واسع على التاريخ البشري، قديمه وحديثه، فصاحب المشروع على بينة من أسباب سقوط الأمم وأسباب نهوضها.

هذا المشروع وضع أصبعه على الداء. ما هو هذا الداء؟ إنه مرض النفوس؛ الكبر والعجب والأنانية وحب الدنيا وشهواتها. ومرض النفوس تتفرع عنه جميع الأدواء، وأشدها خطرا؛ فساد الحكم، وما لم تعقم جرثومة الفساد في القلوب، فلا أمل في الإصلاح. ما هو الدواء؟ الدواء هو التربية، والتربية تخل عن الرذائل وتحل بالفضائل وترق في مجال السلوك إلى الله سبحانه وتعالى عز وجل، وهذا هو ميدان صاحب الذكرى، فهو طبيب للقلوب، ولا نزكي على الله أحدا، لقد كنا نحضر مجالسه، ونخرج بروحانية عليا، وبهمة فولاذية، وبسكينة تغمر قلوبنا.

مشروع واضح المعالم، قابل للتطبيق، قائم على التدرج. وأهم ما يتميز به هذا المشروع أنه لم يهتم بدنيا الإنسان فحسب، وإنما اهتم بمصير الإنسان؛ بآخرته، بعلاقته بربه، كيف يعيش في هذه الدنيا عبدا يؤدي وظيفة العبودية، سعيدا، مطمئنا، وكيف يلقى الله سبحانه وتعالى عز وجل وهو عنه راض.

إذا فهو مشروع يسعى إلى تحرير الإنسان من عبودية غير الله، ليحقق وظيفته في هذه الدنيا؛ وظيفة العبودية ووظيفة الإعمار.

مشروع يدعو إلى تأسيس مجتمع تبنى قواعده على العدل والإحسان والشورى، يضمن الحرية والأمن والكرامة لكل أفراد المجتمع، أطلق عليه صاحبه، كما سمعنا، “العمران الأخوي”؛ لأنه يؤاخي بين المواطنة الإيمانية والمواطنة الجغرافية، يصهرها في بوتقة واحدة، ويربطها برباط الأخوة القائمة على التعاون والتآزر والتكافل.

أحبتي؛ سادتي؛

لا يخفى عليكم أن قوى الشر الداخلية والخارجية، لا تسمح أبدا بإقامة مثل هذا المجتمع، لأنه يهدد مصالحها، فهي تقف سدا منيعا أمام دعوات الإصلاح، وتوظف كل إمكانياتها لقمعها واستئصالها وتشويش سمعتها. ولذا دأبت جماعة العدل والإحسان في كثير من المناسبات أن توجه النداء للشرفاء المخلصين الغيورين على البلد لتكثيف اللقاءات والحوارات؛ للتفاهم والتعاون على إنشاء حلف كحلف الفضول، يتعاهد أهله على نصرة المظلوم أيا كان، وعلى الوقوف صفا واحدا في وجه الفساد والاستبداد. أسأل الله تعالى أن يوحد صفنا، ويجمع كلمتنا، ويعيننا على ما فيه الخير للبلاد والعباد.

أختم كلمتي هذه بدعوة نفسي أولا وإخواني وأخواتي في جماعة العدل والإحسان أن نجعل من هذه الذكرى منطلقا لتجديد التوبة والعزيمة والعهد مع المصحوب، فلا معنى لإحياء الذكرى إن لم تبعث فينا لوعة الشوق إلى الله، ولم تدفعنا إلى الاقبال عليه؛ دعاء وذكرا، وإقبالا على كتابه؛ حفظا وتدبرا وتنزيلا. فمن الوفاء للصحبة أن يرى الناس المنهاج النبوي، مشروع العدل والإحسان، مجسدا في سلوكنا، وأعمالنا، ومعاملاتنا، وأحوالنا.

ومن الوفاء للصحبة أن ننفد وصاياه الغالية، التي أراد رحمه الله أن تكون آخر ما نسمع وآخر ما نقرأ، ومن ضمن هذه الوصايا؛ الحفاظ على رابطة الأخوة في الله، وحسن الظن بعباد الله، والنصح لخلق الله، وألا نجبن في مواطن الدفاع عن دين الله وعن خلق الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله. والسلام عليكم.