ذكريات إعفاء

Cover Image for ذكريات إعفاء
نشر بتاريخ

قبل 5 سنوات، وفي تاريخ 7 فبراير 2017، تلقى خبر إعفائه كمدير من مهامه الإدارية بدون سابق إنذار أو توقع، خصوصا أن تسييره لمؤسسة تضم أكثر من 1400 تلميذ وأطرا وأساتذة كان تسييرا متقنا وناجحا، بل كانت مؤسسته شامة بين المؤسسات، ومرجعا تستقى منه الخبرات. بعد أن أخبر الأطر الإدارية والأساتذة بهذا المصاب الجلل تعجبوا وحاولوا استيعاب الأمر؛ فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ منهم من استنكر ومنهم من أخرسه الصمت ومنهم من عانقه؛ محاولا الاحتفاظ به ولو للحظة، عله يحتفظ برائحته وسمته ومواقفه وأخلاقه.. وهل ينسى الرجال، وتموت ذكراهم؟ حاشا لله، بل تبقى خالدة في قلوب الناس وعقولهم.

خلا بنفسه في مكتبه لآخر مرة؛ يودعه ويجمع حقيبته الإدارية، وزع نظرات عميقة في أرجائه وهو يسترجع الذكريات الأولى للتأسيس وبناء الجسم الإداري والعمل بجد ونشاط. لقد جاء إلى هذه المؤسسة وهي تتخبط في العشوائية والفوضى فصرف الساعات الطوال؛ يسيّر ويرتب وينظم تهييئا لجو يجد فيه التلاميذ والأساتذة راحتهم النفسية ويسهل عملية التربية والتعليم، ولقد أخذ الأمر منه جهدا وتفكيرا وعطاء كبيرا، حتى كان ذلك على حساب وقت أبنائه وعائلته، إلى أن نظم سيرورة الاشتغال وحركة سير المؤسسة، فاطمأن وارتاح نسبيا، وبقي يعمل طامحا أن يزيد أوراشا ويفعل أخرى، ويعد أجيالا بعد أجيال لتنفع المجتمع، فجاء هذا القرار الجائر الظالم كالصاعقة ليبتر يدا منتجة ممدودة بالخير والصلاح ويخيب الآمال ويدوس عليها. تساءل في نفسه: هل يعلم متخذو هذه القرارات الفورية إلى أين سيؤول مستقبل المؤسسة والمجتمع برمته؟ وإلى أي هاوية يجرونه وهم يعزلون أخيار أطره ويهدمون قدواته؟ فمجتمع بلا قدوات حسنة مجتمع موات.

تناول رشفة من الماء ورجع إلى الوراء مستندا على كرسيه، وعاد يجول بخاطره في ضجيج أفكاره؛ لقد بلغت عقدي الخامس، راكمت فيه عدة تكوينات وأحسن المهارات والخبرات والتجارب، وصعدت فيها سلم الارتقاء الوظيفي عن استحقاق، أأرجع الآن إلى نقطة الصفر؟! ثم ماذا أفعل بتراكم التجارب هذا؟! هل أكتمه في داخلي حتى تأتي عليه آلة النسيان فتلتهمه؟ وماذا عن هذا التلميذ المسكين الذي هو ركيزة التعليم في بلادنا، كيف يؤول حاله وكيف يصير مآله وأفواج من أطره تعفى وتنفى عنه بدون مبرر؟ لماذا إذن نستنكر الانحطاط التربوي والتعلمي الذي يعرفه مجتمعنا ونحن نعفي من يعمل بجد وتفان؟ ثم إن الوقت ما يزال طويلا لإحالتي على التقاعد، فهل هو إعفاء أم تسريح مفروض وراحة جبرية جالبة للنوم والاستكانة والخنوع والاستسلام للأمر الواقع؟ ولكن هيهات هيهات.. فما للمؤمن راحة، بل هي فرصة للرجوع إلى باب الحق سبحانه، والزيادة في العبادات وحفظ القرآن، وهي شكوى إلى الله يبثها قلب مكلوم في من ظلم، ونضال مستمر دفاعا عن حق مهضوم. 

هكذا تساقطت عليه الأفكار تلو الأخرى كأنها سحابات تغمم سماءه، وتزيد تأمله في حملة الإعفاءات التعسفية الجماعية التي طالته هو و180 إطارا آخر مخلفة آثارا ظالمة في حقهم وحق أهاليهم.

قطع حبل أفكاره وأضاف آخر لمساته على الحقيبة وارتدى معطفه وغادر مكتب المدير؛ الذي أخرج منه لا لخلل في مهنيته بل لإيمانه بمشروع جماعة مجتمعية سلمية تدعو إلى العدل والإحسان، مسلما أمره إلى الله تعالى، فهو نعم المولى ونعم النصير.