تحل اليوم الذكرى الرابعة عشرة لاختطاف سبعة من أعضاء جماعة العدل والإحسان بفاس على خلفية وشاية كاذبة وانتقام مفضوح. اختطاف قامت به أجهزة الاستخبارات المخزنية المغربية في جنح الظلام ضدا على كل الأعراف والقوانين. وشاءت إرادة الحق الذي يعلو ولا يعلى عليه أن تنتهي مشاهد المسرحية الممجوجة للنظام المخزني على وقع الاندحار والفضيحة والسقوط المدوي لأجهزته وادعاءاته..
تجربة لم تستفد منها أجهزة القمع شيئا، وهي المجبولة على الانتهاكات الجسيمة للحقوق والحريات، حيث ما زلنا نرى ونعيش فصولا أخرى للاعتقالات التعسفية والمتابعات المفبركة التي تطال عشرات الوجوه والرموز من أحرار هذا الوطن في الوقت الذي يرعى فيه الاستبداد مختلف أنواع الفساد..
مشهد حقوقي متردي نتيجة هذه الانتهاكات في زمن يترأس فيه المغرب المجلس الدولي لحقوق الإنسان بمباركة نظام عالمي يدعي الديمقراطية ونصرة قيم الحرية والكرامة والعدالة الإنسانية ..
يتساوق إذن المشهد الداخلي مع نظيره الخارجي العالمي، حيث يعيش العالم على وقع أحداث توزن بمكيالين على طرفي النقيض، لكنهما يشكلان وجهين لعملة واحدة. ففي الوقت الذي يستنفر فيه طاقاته وإمكاناته وإعلامه لنصرة أوكرانيا الضحية في نظره، نجده يجند إمكاناته اللوجستيكية ودعمه الاستخباراتي وإمداداته المادية والعسكرية، والدعم اللامشروط للكيان الصهيوني الذي يمعن -بشكل لم يسبق له مثيل- في قتل وتشريد وتجويع المدنيين الفلسطينيين بغزة، وفرض حالة الطوارئ القصوى بالضفة، والإمعان في القتل والتخريب وتكديس السجون بالمعتقلين من مختلف الأعمار نساء وشيوخا وأطفالا، وإهدار الكرامة الآدمية بأبشع صور الانتقام والتعذيب..
لقد فضح طوفان الأقصى -كما الحرب الأوكرانية- انحياز الغرب ومنظوماته الإعلامية والاستخباراتية والعسكرية للطرف الذي يخدم مصالحه ليس إلا، ولا حرج في أن يكيف الأمور على الوجه الذي يضمن له ذلك..
لكن رب ضارة نافعة، فلقد فضح طوفان الأقصى، وما تلاه من تداعيات عسكرية وإنسانية، أكاذيب وادعاءات جمة تلحّف بها الغرب وغطى بها على جرائمه منذ عقود، من قبيل العزف على وتيرة القيم الإنسانية المشتركة، وما أحداث البوسنة والهرسك وأفغانستان والعراق والصومال عنا ببعيد..
لقد أحدث طوفان الأقصى زلزالا عالميا حطم حصون “النظام العالمي الجديد”، وكشف عن سوءاته وقيمه المزيفة المناقضة للقيم الإنسانية المرجوة. كما حطم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وفضح أكذوبة أوسلو، وكشف حقيقة “التضامن العربي” وانهزامه وتخاذله، بل تواطؤه المفضوح مع الكيان الصهيوني ضد إخوان العقيدة والدم..
هزائم متعددة الوجوه ألحقها طوفان الأقصى بحراس الشرعية المزعومين، فلا غرابة أن يقابل ذلك بالتكتل ضده، والتصدي لامتداداته، والتحايل على مجريات الأحداث، والسكوت عن الفظاعات المرتكبة في مواجهته..
هزم طوفان الأقصى، بثبات رجاله ونسائه، وصمود أحراره ومجاهديه، ووحدة مقاومته، العالم أجمع وهو يتفرج على مشاهد التقتيل والتدمير والتهجير والتجويع والإبادة الجماعية دون القدرة على فعل شيء إما عجزا أو تواطؤا..
أجل، لقد حقق طوفان الأقصى انتصارا تاريخيا منذ أول يوم له، وما زالت انتصاراته تثرى إلى يومنا هذا..
انتصر خيار المقاومة على خديعة التفاوض والتلاعب بالقضية والمساومة عليها..
انتصرت الإرادة الحقيقية في التحرر على المداهنة والاستسلام والتطبيع..
تحرر الضمير الإنساني من التبعية العمياء والتدجين الممنهج والتحكم المتصهين، إلى الاصطفاف مع الحق الفلسطيني في الوجود..
انتصر التحدي في إرجاع القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام على نهج التعتيم والتسليم فيها وإقبارها تحت ماكينة التطبيع..
انتصرت قيم التعامل الإنساني التي انتهجتها المقاومة مع أسرى العدو الصهيوني على الهمجية والوحشية والتنكيل الصهيوني بالإنسان الفلسطيني حيثما كان..
انتصر الوعي العالمي والحس الإنساني على أنظمة الحكم المكبلة بقيود الصهيونية العالمية، وانتصر الاقتناع المتنامي بأن الصهيونية وراء الخراب الذي يهدد الإنسان والقيم..
ولعل أكبر انتصار لطوفان الأقصى هو هذا اليقين الثابت لدى الإنسان الفلسطيني في النصر والتمكين، والصبر على الابتلاء مهما بلغت حدته وهمجيته، وإصراره على احتضان المقاومة والوقوف سندا لها إلى آخر رمق..
كل ذلك يبشر بفتح ونصر قريب، وتحرير للإنسان هنا وهناك.. “إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا”.. وحسبه أنه أحيى الأمة، ومراده أن يكشف عنها الغمة..
فنعم الذكرى والتذكير، ونعم البشرى بالتحرير، ولا نامت أعين الجبناء والمتخاذلين ومن ليس له ضمير..
“والله غالب على أمره”، وهو سبحانه “نعم المولى ونعم النصير”.