ذات النطاقين

Cover Image for ذات النطاقين
نشر بتاريخ

الحمد لله الملك الوهاب، الذي إذا دعي أجاب، وإذا سئل أعطى بغير حساب، أشهد أن لا إله إلا هو سبحانه إليه المتاب، وأشهد أنّ سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله رفيع القدر عظيم الجناب، اللهم صل عليه وعلى الآل طرّا والأصحاب، ومن سار على سنته واهتدى بهديه إلى يوم المآب.
لم يخطر لها على بال، ولا طاف لها بالخيال، أن قطعة القُماش تلك ستكتب اسمها في سجلّ الخالدين، وستُحسب لها منقبةً إلى يوم الدّين.
أما وإن الأعمال رهينةٌ بما عُملت له، ومن عُملت له.
كانت قريش قد جنّ جنونها، وطاش سهمها حينما حقّقت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم كل ذلك النجاح، وكسبت إلى صفّها أنصارا من المدينة المنوّرة “يثرب”.
وها قد أصبح لأولئك المستضعفين -الذين سامتهم قريش ألوان العذاب على مدار اثنتي عشرة سنة- أرضٌ يهاجرون إليها.. ولقد هاجروا بالفعل زرافات ووحدانا، وفارقوا –في سبيل الله- أزوجا وأولادا وإخوانا، وباعوا أموالهم وما لهم واشتروا من الله جنّة ورضوانا.
بقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مكة ينتظر الإذن بالخروج، وأبقى معه أبا بكر -رضي الله عنه-، فاغتنمت قريش الفرصة وكادت كيدها، وأحكمت خطتها لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في محاولة يائسة بائسة لصدّ هذه الدعوة المباركة عن كسب المزيد من التزايد العددي والتوسع الجغرافي.
لكنهم يكيدون كيدا والله يكيد كيدا.. يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
وفي الوقت الذي نصبوا فيه فخهم للقضاء على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، جاءه –عليه الصلاة والسلام- الأمر بالخروج..
ولندع السيدة عائشة -رضي الله عنها- تحدثنا فهي الحاضرة الشاهدة. قالت:
“فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله ﷺ متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله ﷺ فاستأذن، فأذن له فدخل، فقال النبي ﷺ لأبي بكر: (أخرج من عندك). فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله، قال: (فإني قد أذن لي في الخروج). فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم). قال أبو بكر: فخذ – بأبي أنت يا رسول الله – إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله ﷺ: (بالثمن). قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت ثم لحق رسول الله ﷺ وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب، ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما، حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله ﷺ وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي، هاديا خرّيتا -والخريت الماهر بالهداية- قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة، والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل”.
“فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين”..
مشاركة بسيطة تلخّصت في جمع شيء من الطعام لرجلين تطاردهما الدّنيا بأكملها.. رجلين سيقومان بعملية فرار هي الأشهر في تاريخ البشر.. فلما جمعت الزاد لم تجد ما تربط به الجراب فعمدت إلى قطعة قماش كانت تتمنطق بها فشقتها نصفين لتتمنطق بشطر وتربط الجراب بشطر..
في بوادينا مثل هذه الحركة تعدّ من الأشياء البديهية التي تقوم بها المرأة البدوية كلّ يوم.. فشقّ ثوب من ثيابها أو خمار من فوق رأسها لتربط به على رأس قِدْر أو لتجمع به كِسَر خبز في ثوب تبعث بها إلى زوج أو ابن في الحقل شيء عادي جدّا.. لكن بالنسبة للسيدة أسماء لم يكن عاديا رغم بساطته.. لأن ذاك العمل البسيط كان في ذات الله.. كان في سبيل الله.. كان لأجل رسول الله.. كان لتنتصر دعوة الله.
ورُبّ عمل صغير تعظّمه النية، ورُبّ عمل عظيم تحقّره النية.
يا أختاه.. كوني ذات نطاقين.. واحد لدنياك وآخر لأخراك.. لكن أن تكوني بدون إياكِ ثمّ إياكِ.
ما زال باب العروج إلى مقامات البروج مترعا.. فقط شقّي نطاق وقتك وعمرك ومالك وقلبك.. وها أنتِ في الخالدات الفائزات..
وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.