إن من أهم أهداف إعادة قراءة السنة النبوية هو أن نقتدي بالفترة النبوية التي كانت تعيش فيها المرأة قمة تحررها وعطائها، فترة ازدهار الحضارة الإسلامية، فترة الإحياء والتجديد وإعلاء مقام العقل والعقلانية.
ويعد العقل في الإسلام شرطا لفهم الدين والرسوخ فيه، على عكس ما هو عليه حال الأمة اليوم من جمود وتقليد واجترار لأقوال السلف وآرائهم في شتى المجالات ومنها مجال المرأة.
“ولا غرابة في ذلك، بما أن الرسالة المحمدية هي الخاتمة لعهد الوحي، والفاتحة لعهد العقل في آن واحد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوّل ما خلق الله العقل، فقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر». ثم قال الله عز وجلّ: «وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم منك! بك آخذُ وبك أعطي، وبك أثيب وبك أعاقب». وقال صلوات الله عليه: «سألت جبريل عليه السلام: ما السؤدد؟ فقال العقل”. وما إخالني في حاجة إلى سرد جميع الآيات والأحاديث التي ترفع من شأن العلم والعقل، ولكن أراني مضطراً إلى التأكيد على وجوب التأمل في قول نبينا الأكرم «العلماء ورثة الأنبياء»، من جهة، ووجوب التأمل في قول الإمام الغزالي رحمه الله: “العقل منبع العلم ومطلعه وأساسه”، من جهة أخرى. فلم يا ترى نُصِّبَ العلماء ورثة للأنبياء؟ أليس لأحقيتهم بإنارة طريق البشر وإطلاعهم على أسرار المخلوقات الكامنة في الآفاق وفي النفوس؟ أليس لكونهم يجعلون العقل المروض والـمُجرَّب منبعاً لعلمهم؟ وهذا يقتضي أن يكون لكل زمن علمه النابع من ظروف ترويض العقل وتحنيكه. والمستخلص من هذا أن العلم لا يمكن أن يكون جامدا، بل هو في تطور مستمر. وكل من جادل في هذا الأمر إنما يجادل من موقع دفاعه عن مصالح دنيوية سواء استبان سيطرتها على وجدانه أم لم يستبنها. وهذا ما يفسر تزمت كثير من الفقهاء المحترفين وجنوحهم إلى القول بأن باب الاجتهاد قد أغلق، واعتقادهم الراسخ أن بين «العلوم الدينية» و«العلوم الدّنيوية» فاصلا من قبيل الأعراف التي بين أهل الجنة وأهل النّار، وأن علمهم وحده هو العلم، وأن ما سواه تُرَّهات وخرافات وأوهام” (1).
إن الشريعة الإسلامية تتميز بخاصية الخاتمية والخلود والشمول، وهذا ما جعلها منهاجا متكاملا صالحا لكل زمان ومكان.
“والذي يتعمق في فهم السنة وأسرارها، يتبين له أن المهم هو الهدف، وهو الثابت والدائم، والوسائل تتغير بتغير البيئة أو العصر أو العرف أو غير ذلك من المؤثرات” (2)، كما أن “الوسائل تتغير من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى أخرى، بل لا بد أنها متغيرة، فإذا نص الحديث على شيء منها، فإن ذلك لبيان الواقع، لا ليقيدنا بها ويجمدنا عليها” (3).
لقد حاول الدكتور طه جابر العلواني في تقديمه لكتاب “كيف نتعامل مع السنة” أن يبرز دور السنة في معالجة مشكلات الأمة والتي تشكل جانبا من جوانب أزمة العقل المسلم المعاصر، وتظهر بأشكال مختلفة، وهنا يتقاطع مع الأستاذ أبو شقة في ربط قضية المرأة بتحرير العقل المسلم، “فكيف يمكن توظيف السنة النبوية وإحياء دورها في تصحيح مسار الأمة وإعطاء الرؤية الواضحة والتصور السليم الذي يساعد على تقديم التفسير المقنع لكل هذه القضايا؟” (4).
في عصر الرسالة، فهم الناس القرآن الكريم بسبب معايشتهم للسنة النبوية “فظهر تأثيره المعجز في إيجاد الأمة الوسط، الشهيدة على الناس المتصفة بالخيرية التامة، القادرة على مواجهة أي تحد، المتخطية لأية عقبة” (5).
وما أحوج الأمة الآن للتحلي بالوسطية والشهود الحضاري من جديد، وبالتالي “لا بد من إعادة قراءة مصادر الإسلام الثابتة: الكتاب والسنة، بوعي وفهم دقيقين، ونظر إسلامي معاصر قادر على ملاحظة جميع المؤثرات وسائر الأبعاد لاستلهام المقاصد، ومعرفة الغايات وتبين الكليات واستنباط المنهج اللازم للاستجابة الإسلامية لتحدي المرحلة، وإعادة بناء مقومات الأمة” (6)، وهذا الرجوع إلى الأصول ينبغي أن لا ينسينا تراثنا ويجعلنا نبخسه أهميته، لأنه يعتبر تجسيدا للخبرة التاريخية للأمة، ويعكس تفاعل العقل المسلم مع نصوص الوحي لتنزيل قيمه وتحقيق مقاصده في السياق التاريخي والاجتماعي.
إن “إعادة دراسة تراثنا الإسلامي وفهمه وقراءته قراءة نقدية تحليلية معرفية، تخرجنا من الدوائر الثلاث التي تحكم أساليب تعاملنا مع تراثنا في الوقت الحاضر؛ دائرة الرفض المطلق، ودائرة القبول المطلق، ودائرة التلفيق الانتقائي العشوائي” (7)، لأن هذه الدوائر الثلاث لا تحقق لنا التواصل مع تراثنا، ولا القطيعة مع ما يجب مقاطعته من هذا التراث.
لقد حاول طه جابر العلواني أن يجعل القرآن الكريم والسنة النبوية مصادر للثقافة والفكر والمعرفة والحضارة بقوله: “يجب أن نعيد قراءة القرآن الكريم وما صح من السنة النبوية المطهرة ونقوم بعملية تصنيفها وتوزيعها على قضايا العلوم الإنسانية والاجتماعية، لنكشف توجيهاتها وأحكامها. كثير منها قد اختلط بعلم الفقه في تاريخنا ويحتاج إلى إعادة درس وتصنيف، وبعضها لم يلتفت إليه أئمتنا من قبل، علينا أن نكتشفه. وكما وضع الفقهاء الأصوليون مناهج الاجتهاد للوصول إلى الحكم الشرعي، لابد أن نضع منهاجا للتعامل مع الكتاب والسنة في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، لنتوصل من خلاله إلى كيفية استخدام الكتاب والسنة في هذه المجالات” (8).
ومن أخطر المجالات الملحة والخطيرة التي تتقاطع داخلها العلوم الإنسانية والاجتماعية مجال المرأة؛ هذا المجال الذي يحتاج إلى وضع منهاج للتمكن من تحرير المرأة وتبويئها المكانة اللائقة بها في المجتمع لكي تساهم في نهضته ورقيه.
(1) حوار مع صديق أمازيغي، عبد السلام ياسين، ص 15ص16
(2) كيف نتعامل مع السنة النبوية، معالم وضوابط، يوسف القرضاوي، ص 141.
(3) المصدر السابق، ص 142.
(4) المصدر السابق، ص 15.
(5) المصدر السابق، ص 17.
(6) المصدر السابق، ص 19.
(7) إصلاح الفكر الإسلامي، مدخل إلى نظم الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر، طه جابر العلواني، ص 111.
(8) الأزمة الفكرية ومناهج التغيير، الآفاق والمنطلقات (سلسلة أبحاث علمية: 12)، طه جابرالعلواني، ص 61.