دعاة حتى آخر نفَس

Cover Image for دعاة حتى آخر نفَس
نشر بتاريخ

الحمد لله، والصلاة والسلام على طه حبيب الله، وعلى الآل والصحب ومن والاه.

يقول ربنا جل جلاله: قِيلَ اَ۟دْخُلِ اِ۬لْجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيْتَ قَوْمِے يَعْلَمُونَ (25) بِمَا غَفَرَ لِے رَبِّے وَجَعَلَنِے مِنَ اَ۬لْمُكْرَمِينَۖ(26)[سورة يس الآية:25-26].

في قرية ما من أصقاع الأرض… في الشرق أو الغرب، في الطول أو في العرض… لا يهمّنا أين كانت… فلو كان في معرفة اسمها فائدة ما بخل بها علينا مولانا جلّ جلاله. لكن في تجمّع بشري ما… في زمن ما… زاغ النّاس عن طريق الحق، فأرسل المولى الكريم –سبحانه- لهم رسولين ليبلّغاهم دعوة الله ويدلّانهم عليه. لكنّ الأمر استعصى على هذين الاثنين وقابلهم السكان بالصدّ… فعزّزهما الله -تعالى- برسول ثالث وأمرهم بأن يضاعفوا الجهد… لكنهم-مع ذلك- فشلوا في إقناع سكّان القرية بعبادة الله الواحد الأحد.

وهمّت القبيلة بقتلهم والتخلّص منهم… فجأة يأتي رجل – ما كان نبيا ولا رسولا- لينصر دعوة الله… جاء من أقصى المدينة يسعى… رغم علّته ومرضه وسقمه… جاء ناصحا قومَه مناصرا دعوةَ ربّه… جاء ليقف إلى جنب الدّعاة مؤازرا مؤيدا وليكن بعد ذلك ما يكون.

قيل بأن اسمه حبيبا… ووالله إنّه لحبيب هذا الذي لا يتوانى ولا يتكاسل، ولا يتراجع ولا يتخاذل، ويأتي في الوقت الحرج ليدفع عن الدعوة وأهلها رغم الأخطار والأهوال.

لم يكن “حبيب” ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن كبير قومه، عظيما… يشار إليه بالبنان، ولم يكن صاحب عُزوة له ظهر وأعوان… فانقضوا عليه و قتلوه شرّ قِتلة… قيل إنهم: وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه .و قيل: جعلوا يرجمونه بالحجارة، وهو يقول: “اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون ” فلم يزالوا به حتى أقعصوه وهو يقول كذلك، فقتلوه، رحمه الله 1.

وتحاشى السرد القرآني ذكر جريمة القتل التي ارتكبها المجرمون، وتنزّه عن وصف بشاعة ما اقترفه الظالمون.

تجاوز القرآن في حكيه لهذه القصة -وفي غيرها من القصص- تسليط الضوء على هذا الجانب المظلم من مثالب الطغاة والمشركين والكافرين، وضرب صفحا عن وصف المخازي وبسط جزئياتها ولم يعطها الحقّ في الظهور… فهي لا تستحقّ أن نتحدّث عنها أو ننشغل بها… ففظاعة الإجرام لا تعدّ شيئا أمام عظمة الإكرام… وإنها لجناية تهون بشاعتها أمام حلاوة الشهادة… فلسان حال الدعاة يقول: »ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري… إن رحت فهي معي لا تفارقني. إنّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.» 2.

نعم… لقد انتقل القرآن انتقالة سريعة من قول الرجل لقومه: يَٰقَوْمِ اِ۪تَّبِعُواْ اُ۬لْمُرْسَلِينَ (19) اَ۪تَّبِعُواْ مَن لَّا يَسْـَٔلُكُمُۥٓ أَجْراٗ وَهُم مُّهْتَدُونَۖ (20) وَمَا لِيَ لَآ أَعْبُدُ اُ۬لذِے فَطَرَنِے وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَۖ (21) ءَآتَّخِذُ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً اِنْ يُّرِدْنِ اِ۬لرَّحْمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغْنِ عَنِّے شَفَٰعَتُهُمْ شَيْـٔاٗ وَلَا يُنقِذُونِۦٓۖ (22) إِنِّيَ إِذاٗ لَّفِے ضَلَٰلٖ مُّبِينٍۖ (23) اِنِّيَ ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِۖ (24).

انتقالة سريعة من تصوير ذلك الدّاعي إلى الله، الناطق بالصّدق، الشاهد بالقسط، الذي يتفتّت كبده حسرة على قومه ألاّ يكونوا مؤمنين، ويتقطّع فؤاده ألما ألاّ تتّبع عشيرته هذا الحقّ المبين، إلى تصوير ذاك الشهيد الذي يرفل في فضل الله ونعمائه، ويتمتّع بفيض جوده وجميل عطائه.

قِيلَ اَ۟دْخُلِ اِ۬لْجَنَّةَۖ.

فلن يشعر هذا الرجل بآلام التعذيب والتنكيل ما دام الذي يلقاه إنّما هو في سبيل الله. فمن عرف ما قصد، هان عليه ما وجد… أما سمعت أنّ بلالا–رضي الله عنه- كانوا يعذبونه أشدّ التعذيب ليردّوه عن دينه وهو يقول لهم أحد أحد…

 ستختفي-في الجنّة- كلّ تلك النّدوب والجراح، وسينعم حبيب النجّار هناك بالأمن والارتياح.

ما علم المجرمون الحمقى أنّهم أسدوا إليه معروفا لن ينساه أبدا… فقد نقلوه من عالم الفناء إلى عالم البقاء في كفن الشهادة المخضّب بدم الجهاد المبارك.

ولله درّه من رجل… ولله درّه من داع إلى الله…

أيّ قلب هو قلبك يا حبيب…

يَٰلَيْتَ قَوْمِے يَعْلَمُونَ (25) بِمَا غَفَرَ لِے رَبِّے وَجَعَلَنِے مِنَ اَ۬لْمُكْرَمِينَۖ (26)

 الداعي إلى الله على بصيرة وفهم، ودراية وعلم، وصدق وعزم… لا يكره ولا يبغض ولا ينتقم…

الداعي إلى الله بحقّ… يشفق على الخلق… همّه نجاتهم لا هلاكهم… له نصيب من الإرث النبوي و الخلق المحمّدي: وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةٗ لِّلْعَٰلَمِينَۖ(سورة الأنبياء الآية: 106).

حتى بعد استشهاده ورحيله عن دنيا النّاس… ما زالت الدعوة همّه… ما زالت هداية الخلق غايته.

ما زال يحمل همّ قومه، ويرحم حالهم، ويكنّ لهم الحبّ والمودّة، ويرجو أن يعقلوا فيتبعوا داعي الله.

لا إله إلا الله… محمد رسول الله.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.

 


[1] ذكر ابن كثير عند تفسيره للآية24  من سورة  يس.
[2] قالها ابن تيمية في سجنه بدمشق نقلها عنه تلميذه ابن القيّم في الوابل الصيّب.