دعاء السفر.. للسفر الأكبر

Cover Image for دعاء السفر.. للسفر الأكبر
نشر بتاريخ

ما قبل السفر..

أسست السنة النبوية للأذكار والأدعية المخصوصة بالمناسبات والأزمنة، باعتبارها أمرا لازما وسلوكا ملازما لفعل المؤمن في أحواله كلها وفي حركاته وسكناته جميعها، ويتجلى هذا التلازم بين المؤمن وبين الذكر والدعاء في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي لم تهمل حالا من أحوال المؤمن إلا وخصصت له ذكرا أو دعاء مخصوصا، وفي هذا دلالة على أهمية الدعاء، في صلة العبد بربه باعتباره جماع الأمر كله، ولقد عقد علماء الحديث -رحمهم الله- أبوابا أفردوها للأدعية والأذكار المسنونة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل منهم من أفرد كتبا بأكملها لهذا الشأن؛ كما فعل الإمام النووي في كتابه “الأذكار” وكذا الإمام القرطبي في كتابه “الماتع التذكار في أفضل الأذكار”، وغيرهم من العلماء والمحدثين رحمهم الله جميعا.

ومن الأذكار التي سنّها النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين دعاء السفر، يردده المؤمن ذكرا ودعاء ورجاء من الحق عز وجل أن يخفف مشقة السفر التي كانت مشقة بالغة، خاصة في الزمن الأول حيث كانت الرحلة الواحدة تستغرق السنة. والمشقة في السفر حاصلة متقررة في زمننا هذا الذي تطورت فيه وسائل التنقل وتنوعت، فبالأحرى زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك، كان يقول صلوات ربي وسلامه عليه: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ، يَمْنَعُ أحَدَكُمْ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ونَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إلى أهْلِهِ» (صحيح البخاري، 1804).

جاء ذكر حديث دعاء السفر من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، حيث أخبر “أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ إذَا اسْتَوَى علَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إلى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قالَ: سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا، وَما كُنَّا له مُقْرِنِينَ، وإنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هذا البِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ العَمَلِ ما تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ في الأهْلِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المَنْظَرِ، وَسُوءِ المُنْقَلَبِ في المَالِ وَالأهْلِ، وإذَا رَجَعَ قالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ” (صحيح مسلم، 1342).

نريد من خلال تأملنا في هذا الدعاء الجامع أن نتحول به من السفر الأصغر إلى السفر الأكبر، من الحديث عن سفر الانتقال من بلد إلى بلد، إلى الحديث عن سفر الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، فنقتبس من درر دعاء السفر ومعانيه صوى وإشارات هادية للسالك المسافر إلى الدار الآخرة. عسى أن تكون هذه الإشارات مخفّفة للمشقة، طاوية لبعد المسير ووعثائه.

وأي سفر أطول وأعظم وأشد شقة ووعثاء وأرهب لسوء المنقلب وكآبة المنظر من سفر الآخرة، ذلك السفر المستمر من لحظة الخروج إلى هذه الدنيا وإلى آخر نفس عند خروج الروح، نحاول أن نبسط في هذه التأملات كيف يكون دعاء سفر الدنيا هاديا للمؤمن في سفر الآخرة.

أنت الصاحب في السفر..

لما كان طريق معرفة الله عز وجل والسلوك إليه سفرا دائما ممتدا بامتداد عمر الإنسان وامتداد رحلته في هذه الحياة، كان لا بد للإنسان المبتغي وجه الله المريد رضوانه من دليل مرشد، ومن صاحب يأخذ بتلابيب روحه وحسه إلى القرب من الله وابتغاء وجهه والترقي في مراتب الدين إسلاما وإيمانا فإحسانا. لابد من الدليل المرشد الخبير الذي صحب من خبر الطريق وعرف عقباتها، فإذا كان الناس في زماننا هذا وفي كل زمان يبحثون لأسفارهمطالت أم قصرتعن رفيق مجرب خبير يخفف عنهم بمعرفته أيسر طريق وأقربها للوجهة المقصودة، فإن الدليل العليم الخبير وأهمية صحبته في السفر الأكبر آكد، ورفقته وخلته ولزوم الأدب معه أنفع وأفيد، والرفيق قبل الطريق، ومن جرّب عرف. يقول الإمام المجدد رحمه الله في معنى الصحبة في ارتباطها بدعاء السفر أعلاه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كلما ارتحل في سفره: اللهم أنت الخليفة في الأهل والصاحب في السفر. فلقوة تعلقه صلى الله عليه وسلم بربه عز وجل سرت من قلبه الطاهر مادة الإيمان إلى من صحبه ثم امتدت الصحبة وراثة فكانت رحمة بين الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين».

وعثاء السفر..

إن السفر في طبيعته تعب وعناء، مسافات تقطع وعقبات تقتحم وفيافٍ وقفار ومجاهل ومفاوز. وقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند السفر من وعثائه، والوعث لغة الطريق الوعر المتعسر سلوكه إلا بمشقة، وطريق المسير إلى الآخرة لا أشق منه ولا أعسر، فهو المحفوف بالفتن والإحن مفروش بالابتلاء خيرا وشرا، طريق يستلزم مجاهدة ومكابدة وهمة عالية استجابة للاستنهاض الإلهي المحفز: فلا اقتحم العقبة.

مشقة الحياة والسفر في مجاهلها يستلزم التزود والتشمير عن ساعد الجد والتفرغ عن كل صارف عن وجهة المسير؛ إذ العاقل اللبيب من يركز همه وهمته في الأدوم ويستشرف ما بعد السفر ويتجهز للوعثاء، ولا يضنيه التعب فما بعده إلا روح وريحان ورب رحيم رحمان.

سوء منقلب وكآبة منظر..

نعوذ بربنا عز وجل أن يكون منقلبنا بعد سفر الدنيا الطويل خزي وندامة وخسران، نعوذ به أن تكون بضاعتنا يوم ينظر المسافرون ما أحضروا من بضائع حال سفرهم، نعوذ به أن تكون بضاعتنا مزجاة مثلومة بأوعية مخرومة لا قيمة ولا مقام، وحينها يخيب المنظر ويكتئب الحال وينتكس الرأس، نعوذ بالله من هذا ومن غيره ونسأله عز وجل – ونحن نشمر للعمل الصالح الذي يرضاه من البر والتقوى بمعنييهما الجامع – أن تكون البضاعة مقبولة والسفر غنما والمستقر جوار الأنبياء والأولياء والأخيار.

آيبون..

حتى إذا دنا السفر على الانتهاء وتقاربت المسافات وانطوى البعد جددنا العهد والتوبة والأوبة، علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول حال رجوعنا من السفر وقد تراءت لنا الديار: «آيبون تائبون لربنا حامدون»، توبة ورجوع بمثابة جبر لنواقص السفر الطويل وما شابه من غفلات وزلات وتذمر من وحشة السفر وبلائه، ونحمد ربنا عز وجل على ملاطفات ربوبيته حال السفر وقبله وبعده.

نستعجل بتوبتنا الرجوع للدار الدائمة إذ أخبرنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن إذا قضى أحدكم نهمه – يعني من سفره – فليرجع إلى أهله، وهل الدنيا بما فيها وبمن فيها إلا نهم زائل وعرض قليل؟ والعاقل من تشوق لأهله في طيب المقام عند الملك العلام مع النبي والآل والصحب الكرام.

فاللهم هوّن علينا سفرنا واطو عنا بعده ومشقته، والشوق لأهل سبقونا إلى الآخرة. والحمد لله رب العالمين.