الدعاء من أعظم القرب إلى الله تعالى، بل هو روح العبادة وخلاصتها لقوله صلى الله عليه وسلم “اَلدُّعَاءُ مُخُّ اَلْعِبَادَةِ”، وخالصُ كلِّ شيءٍ مُخُّهُ كما قال أهل اللغة، فسمى الله الإيمان كله والعبادة بالدعاء فقال عز وجل قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَولا دُعَاؤُكُمْ. ويكفي أن نذكّر أن أعظم عبادة ـ وهي الصلاة ـ معناها الدعاء.
وقد أثنى الله على أنبيائه فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ويَدْعُونَنَا رَغَبًا ورَهَبًا وكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ أي كان حالهم المسارعة في الخير والدعاء لربهم رجاء وخوفا مع ثبات القلب على الخضوع له عز وجل، فعبر عن فعلهم بصيغة الحال: “يسارعون” و”يدعون”، بمعنى أن عملهم هذا كان ورْداً يداومون عليه وذلك بسبب خشوعهم ولزومهم مراقبة ربهم، بسبب تمكنهم في مقام الإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
فالدعاء ورد المحسنين الخاشعين، وأكمله ما كان لدى ملائكته ورسله، لأنه دعاء شامل جامع، يشمل الداعي وغيره من عباد الله، ويجمع بين خيري الدنيا والآخرة رغبا، والتعوذ من شرّيْهما رهبا. وقد بسط الله عز وجل في مواضع عديدة من كتابه الحكيم أدعية أنبيائه وأثنى عليهم لذلك، وبسط سبحانه في سورة ‘غافر’ ورد ملائكته مِن حملة العرش ومَن حوله من الملائكة الكُروبيين فقال سبحانه: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ومَنْ حَولَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤْمِنُونَ بِهِ ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدْتَهُمْ ومَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وأَزْواجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ومَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَومَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وذَلِكَ هُو الْفَوزُ الْعَظِيمُ (9).
هذا ما نطلق عليه “ورد الرابطة” لأنه سبب يربط أهل السماء بأهل الأرض، ومؤمني الدنيا بمؤمني الآخرة، ويربط السابقين باللاحقين مهما تباعدت الجسوم والأماكن، ينطلق الداعي من بث حاجته إلى بث حوائج غيره من ذوي القرابة الروحية والطينية كما هو شأن حملة العرش ومن حوله، فقد استفاد أهل التفسير من هذه الآيات أن نتخلق بخلقهم هذا فقال بن كثير: (يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حَمَلة العرش الأربعة، ومن حوله من الكروبيين، بأنهم يسبحون بحمد ربهم، أي: يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح، {ويُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: خاشعون له أذلاء بين يديه، وأنهم { يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي: من أهل الأرض ممن آمن بالغيب، فقيض الله سبحانه ملائكته المقربين أن يَدْعُوا للمؤمنين بظهر الغيب، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام، كانوا يُؤمِّنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، كما ثبت في صحيح مسلم: “إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله” (م 4 ـ ص: 130).
وقال في البداية والنهاية: (ولما كانت سجاياهم هذه السجية الطاهرة كانوا يحبون من اتصف بهذه الصفة فثبت في الحديث عن الصادق المصداق أنه قال: “إذا دعا العبد لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثل” (ج 1 ـ ص: 52).
وقال أحمد بن عجيبة رحمه الله في تفسيره: (وفي الآية حث على الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب،والاستغفار لهم، وهو من شأن الأبدال، أهل الحرمة لعباد الله، اقتداءً بالملأ الأعلى).
مشاركة إيمانية وولاَيَة في الله
يرحم الله الإمام حسن البنا فهو من أطلق على ورد الدعاء هذا “دعاء الرابطة”، وليطلق عليه آخر ما يراه مناسبا، إنما نختار هذا المصطلح لما يشي به هذا الورد الملائكي من معاني الولاية في الله ورابطة الإيمان والمشاركة في عبادة رب العالمين، قال الرازي في تفسيره لدعاء الملائكة: اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين، بيّن أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين، كأنه تعالى يقول إن كان هؤلاء الأراذل يبالغون في العداوة فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزناً، فإن حملة العرش معك والحافون من حول العرش معك ينصرونك.
هذا، وقال الألوسي في ‘روح المعاني’: قوله تعالى: “ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها وادعى الدواعي إلى النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس وتباعدت الأماكن”.
إن الله عز وجل دعانا في كتابه الحكيم إلى ثلاث مشاركات إيمانية من هذا النوع:
أولها: إلى ترديد كلمة التوحيد والشهادة بها فقال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو والْمَلَائِكَةُ وأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
ثانيها: إلى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ ومَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
ثالثها: إلى دعاء الرابطة في سورة ‘غافر’: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ومَنْ حَولَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤْمِنُونَ بِهِ ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا.
أعني بالمشاركة الإيمانية مشاركة الصالحين من أهل السماء وأهل الأرض في ذكر الله عز وجل، وأما شهادته سبحانه بالتوحيد وصلاته على النبي صلى الله عليه وسلم فهي دعوة ضمنية منه عز وجل ليصلي علينا ويرحمنا، ألم تر أنه دعانا إلى الذكر ـ وأفضله قول “لا إله إلا الله”ـ فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلًا (42) هُو الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ومَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) ودعانا إلى الصلاة على النبي ليصلي علينا فقال لرسوله الكريم في الحديث القدسي الجليل الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: “إن جبريل أتاني فبشرني أن الله، عز وجل، يقول لك: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه” والملائكة في كل ذلك مشاركة في الصلاة علينا عند الذكر والصلاة على حبيب الله ودعائنا لبعضنا البعض.
والولاية في الله قرب وتناصر، ودعاء الرابطة سبب وثيق في ذلك، ما من دعوة لأخ بظهر الغيب إلا يباركها الله عز وجل ويوصلها إلى روحه سواء كان في عالم الغيب أم في عالم الشهادة فقد روى عبد الرزاق في مسنده عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من عبد يدعو للمؤمنين والمؤمنات إلا رد الله عليه من كل مؤمن ومؤمنة مضى أو هو كائن إلى يوم القيامة بمثل دعائه”.
شفاعة حسنة وقول معروف وصدقة
قال الله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ومَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85).
قال الرازي الشفاعة مأخوذة من الشفع، وهو أن يصير الإنسان نفسه شفعا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة فيها.
نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما معناه أن الشفاعة الحسنة ههنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار، والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالمحبة للكفار وترك إيذائهم، وقال مقاتل: الشفاعة إلى الله إنما تكون بالدعاء، واحتج بما روى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال الملك له ولك مثل ذلك» فهذا هو النصيب.
وقال السمرقندي {قَولٌ مَّعْرُوفٌ} أي دعاء الرجل لأخيه بظهر الغيب.
وقال بن تيمية رحمه الله: وأما قوله في الحديث الصحيح ـ حديث أبى ذر وغيره ـ: (على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة)، فهذا ـ إن شاء اللّه ـ كتضمن هذه الأعمال نفع الخلائق؛ فإنه بمثل هذا العامل يحصل الرزق والنصر والهدى، فيكون ذلك من الصدقة على الخلق.
ثم إن هذه الأعمال هي من جنس الصلاة، وجنس الصلاة الذي ينتفع به الغير يتضمن المعنيين: الصلاة والصدقة، ألا ترى أن الصلاة على الميت صلاة وصدقة؟ وكذلك كل دعاء للغير واستغفار، مع أن الدعاء للغير دعاء للنفس أيضاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل اللّه به ملكا، كلما دعا له بدعوة قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل).
خلق الأنبياء والصالحين
اعلم أن العمل للآخرة لا يكون على السنة إلا إذا كان بنية أن يحصل نفعه للجميع، لذلك لا ترى في أخلاق الأنبياء إلا ما يعود نفعه علينا، فقد كانوا فوق أن تهمهم أنفسهم فقط، وكان سيدهم في ذلك مصطفانا الكريم على الله إذ قال له المولى عز وجل واستغفر لذنبك وللمومنين والمومنات.
ما من دعاء للأنبياء والصالحين في القرآن عرضه القرآن على بساط الثناء إلا وكان فيه إشراك للجماعة المؤمنة، أو كان في أغلب الأحوال بصيغة الجمع خاصة في المواقف الجهادية وذلك بلفظ ‘ربنا’ ويدل عليه أن الملائكة عند الدعاء قالوا {رَبَّنَا} بدليل هذه الآية التي نتفيأ ظلالها، قال تعالى حكاية عن أصحاب طالوت: ولَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ (250).
وهو كثير في القرآن، أما دعاؤهم للغير: وإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا واجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) فقد كان نبينا وأمته دعوة من نبيين في موقف إيماني مشهود لقوله صلى الله عليه وسلم: “أنا دعوة أبي إبراهيم”،ومن دعائه في سورة إبراهيم: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوي إِلَيْهِمْ وارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي ومَا نُعْلِنُ ومَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ ولَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ ومِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنِينَ يَومَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)، ومن دعاء نوح عليه السلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ ولَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28).
قد يستدل بعضهم بهذا على أن السنة أن يعمم ولا يذكر الأسماء، وهذا لا يستقيم لأن السنة بينت وفسرت:
ـ روى البيهقي في السنن الكبرى عن عبد الله بن أبى أوفى وكان من أصحاب الشجرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقاتهم قال اللهم صل عليهم فأتاه أبى بصدقة فقال “اللهم صل على آل أبى أوفى”.
وروى البيهقي أيضا في السنن الكبرى عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرفع صلبه فيقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد يدعو لرجال فيسميهم بأسمائهم فيقول اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبى ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف وأهل المشرق من مضر يومئذ يخالفون رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه البخاري في الصحيح عن أبى اليمان، والأحاديث في هذا كثيرة، قال بن تيمية رحمه الله: وإِذَا سَمَّى مَنْ يَدْعُو لَهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، ومَنْ مِن الْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا./الفتاوى الكبرى.
وهو خلق الصحابة الكرام لما رواه بن عساكر في ‘تاريخ دمشق’ عن أم الدرداء قالت كان لأبي الدرداء ستون وثلاثمائة خليل في الله يدعو لهم في الصلاة.
وما رواه المحب الطبري في الرياض النضرة: عن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا جاءه وفد من الأقطار استخبرهم عن أحوال الناس فيقولون: أما البلد الفلاني فإنهم يرهبون أمير المؤمنين ويخافون سطوته ويحذرون عقوبته، وأما البلد الفلاني فإنهم قد جمعوا في الأموال ما لا تحمله السفن وهم موجهون بها إليك، وأما البلد الفلاني فقد وجدنا بها عابداً في زاوية من زوايا المسجد ساجداً يقول في سجوده: “اللهم اغفر لأمير المؤمنين عمر زلته وارفع درجته” فيقول عمر: أما من خافني فلو أريد بعمر خير لما أخيف منه، وأما الأموال فلبيت مال المسلمين ليس لعمر ولا لآل عمر فيها شيء، وأما الدعاء الذي سمعتم بظهر الغيب فإنه ما أرجو أن يعيد الله من بركات الصالحين ودعواتهم علي فيغفر لي.
كما أنه كان خلق التابعين لهم بإحسان لما رواه عبد الرزاق عن بن جريج قال قلت لعطاء أستغفر للمؤمنين والمؤمنات قال نعم قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فإن ذلك الواجب على الناس قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات قلت أفتدع ذلك في المكتوبة أبدا قال لا قلت فبمن تبدأ بنفسك أم بالمؤمنين قال بل بنفسي كما قال الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات (عبد الرزاق في مصنفه برقم 3122).
وروى بن عساكر في تاريخ دمشق عن موسى بن هارون يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول أنا أدعو الله لخمسة كل يوم أوكل صلاة أسميهم بأسمائهم وأسماء آبائهم أحدهم الشافعي.
وروى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم، وكان يكثر الدعاء ويخفيه.
وروى بن الجوزي في صفة الصفوة والخطيب في تاريخ بغداد أن أبا حمدون الدلال الزاهد الصالح أحد القراء كانت له صحيفة فيها مكتوب ثلاثمائة من أصدقائه يدعو لهم كل ليلة فتركهم ليلة فنام فقيل له في نومه يا أبا حمدون لم تسرج مصابيحك الليلة قال فقعد وأسرج وأخذ الصحيفة فدعا لواحد واحد حتى فرغ (انظر تاريخ بغداد لابن الخطيب).
وروى البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن المبارك رحمه الله: “أنَّه كان إذا ختم القرآنَ أكثَرَ دعاءَه للمؤمنين والمؤمنات”.
من فضائل ورد الرابطة
1 ـ إجابة الدعاء: روى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه: أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما مِن عبدٍ مسلمٍ يدعو لأخيه بظهر الغيب إلاَّ قال الملَكُ: ولك بمثل”، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم عن أبي الدرداء: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “دعوةُ المرءِ المسلمِ لأخيه بظهرِ الغيب مستجابةٌ، عند رأسِه مَلَكٌ موكَّلٌ كلَّما دعا لأخيه بخير قال الملَكُ المُوكَّلُ به: آمين ولك بمثلِه”.
قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: “وفي هذا فضلُ الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب، ولودعا لجماعةٍ من المسلمين حصلت هذه الفضيلةُ، ولودعا لجملة المسلمين فالظاهر حصولها أيضاً، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعولنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوةِ؛ لأنَّها تُستجابُ ويحصُلُ له مثلُها”.
2 ـ الأجر الكثير والبركة العظيمة: ما ثبت في المعجم الكبير للطبراني بإسناد حسن عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن استغفر للمؤمنين والمؤمنات، كتب الله له بكلِّ مؤمنٍ ومؤمنَة حسنةً”.
وروى بن عساكر في “تاريخ دمشق” عن الحسن عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدأ أخاه بالسلام كتب الله له عشر حسنات ومن دعا له بظهر الغيب كتب الله له عشر حسنات.
3 ـ تهذيب النفس وقوة الإيمان وحصول البركة في العطاء: قال الشعراني في “العهود المحمدية”: وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: إذا وقع لأحدكم تقريب في المواكب الإلهية فلا يقتصر على الدعاء في حق نفسه فيكون دنيء الهمة وإنما يجعل معظم الدعاء لإخوانه المسلمين. وقد من الله تعالى علي بذلك ليلة من الليالي لما حججت في سبع وأربعين وتسعمائة فمكثت في الحجر أدعو لإخواني إلى قريب الصباح فأعطاني الله تعالى ببركة دعائي لهم نظير جميع ما دعوته لهم بسهولة ولو أني دعوت ذلك الدعاء لنفسي لربما لم يحصل لي ذلك فالحمد لله رب العالمين.
4 ـ خدمة المسلمين بالغيب والنصيحة لهم: روى الطبري عن قتادة وعن مطرف قال: وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة وأغش العباد للعباد الشياطين، وتلا الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ومَنْ حَولَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ … الآية.
قال بن القيم في كتاب “الروح”: والخلق عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله وإذ كان سبحانه يحب من ينفع عياله بشربة ماء ومذاقة لبن وكسرة خبز فكيف من ينفعهم في حال ضعفهم وفقرهم وانقطاع أعمالهم وحاجتهم إلى شيء يهدى إليهم أحوج ما كانونا إليه فأحب الخلق إلى الله من ينفع عياله في هذه الحال.
ولهذا جاء أثر عن بعض السلف أنه من قال كل يوم سبعين مرة رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات حصل له من الأجر بعدد كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ولا تستبعد هذا فإنه إذا استغفر لإخوانه فقد أحسن إليهم والله لا يضيع أجر المحسنين /ص 134.
5 ـ الرفعة عند الله عز وجل: فقد روى أبو نعيم في الحلية حدثنا إبراهيم بن عبد الله ثنا محمد بن إسحاق الثقفي قال سمعت أحمد ابن الضحاك الخشاب يقول وكان من البكائين رأيت يما يرى النائم شريح ابن يونس فقلت ما فعل بك ربك يا أبا الحارث فقال غفر لي ومع ذلك جعل قصري إلى جنب قصر محمد بن بشير بن عطاء الكندي فقلت يا أبا الحارث أنت عندنا أكبر من محمد بن بشير فقال لا تقل ذاك فإن الله تعالى جعل لمحمد بن بشير حظا في عمل كل مؤمن ومؤمنة لأنه كان إذا دعا الله قال اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات والكائنين منهم.
دعاء الرابطة كما يقترحه الإمام المرشد عبد السلام ياسين
قال الأستاذ المرشد رحمه الله تعالى في كتاب “المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا”: “ينبغي لكل مؤمن ـ والأفضل وقت السحر عندما ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا يدعونا هل من تائب وسائل ـ أن يفتح دعاءه الرابط بالفاتحة ثم يستغفر الله لذنبه، ويسأله لنفسه ووالديه وأهله وولده وذوي رحمه خير الدنيا والآخرة، ويصلي ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنبياء الله ورسله، ثم على الخلفاء الراشدين والصحابة والأزواج والذرية. ثم على التابعين وصالحي الأمة وأئمتها.ثم يتلو “ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا. ربنا إنك غفور رحيم”. ثم على المؤمنين المجاهدين في عصرنا ويعرض على الله حوبتنا ويستفتح للمجاهدين . ثم يخصص بالدعاء من يربطه بهم رباط الجهاد ويذكر الأسماء. ويتوجه في دعائه هذا لمستقبل الإسلام والخلافة والظهور على الأعداء”.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.