دعاء الآباء للأبناء وأثره في ترسيخ المحبة

Cover Image for دعاء الآباء للأبناء وأثره في ترسيخ المحبة
نشر بتاريخ

مقدمة

إن الدعاء من أفضل العبادات القلبية، ومن أعظم القربات إلى المولى عز وجل؛ فهو سبيل الحياة الطيبة في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة؛ قال الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [1].

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على أن لا نعجز فيه: «لا تعجِزوا في الدُّعاءِ فإنَّه لنْ يهلِكَ مع الدُّعاءِ أحَدٌ»[2]. وفي رواية أخرى يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه «ليسَ شيءٌ أكرَمَ على اللهِ عزَّ وجلَّ مِنَ الدُّعاءِ» [3]. كما أن هناك روايات كثيرة تؤكد على أهمية الدعاء، وأنه «مخ العبادة»، ومخ الشيء خالصُه كما جاء عند أهل اللغة. والدعاء في الرّخاء عدّة ليوم الشدة، والدعاء سلاح المؤمن. أما دعاء الآباء والأمهات لأبنائهم فقد جعله الله فطرة جُبِلُوا عليها، فتجده في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة منهج الأنبياء والصالحين، وأما دعاء الأبناء لآبائهم وأمهاتهم فهو واجب شرعي.

والقرآن اعتنى بهداية الإنسان منذ طفولته بل من قبل وجوده، وحث الآباء على الدعاء للذرية، وأمرهم بالاقتداء بالأنبياء والصالحين في تربية أولادهم. فكيف كان دعاء الأنبياء عليهم السلام لأبنائهم من خلال قصص القرآن؟ وما علاقة الدعاء بثمرة المحبة المطلوبة بين الآباء والأبناء؟

1ـ دعاء الأنبياء لأبنائهم في القرآن الكريم

ذكر لنا القرآن الكريم بعضاً من أدعية الأنبياء والصالحين لأولادهم وأهليهم، مثل سيدنا نوح وإبراهيم وإسماعيل ويعقوب وزكرياء ولقمان عليهم السلام، وغيرهم، لكنني سأقتصر على ثلاثة نماذج أساسية:

•  سيدنا إبراهيم عليه السلام

نظرا لما للدعاء من أثر عظيم في صلاح الأبناء، وجدنا خليل الرحمن يسأل ربه ويُلِح عليه سبحانه أن يصلح له ذريته، حتى إنه دعا الله تعالى من أجلهم قبل أن يولدوا، ودعاه سبحانه أن يرزقه من الصالحين، فقال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [4]. ثم يدعو الله عز وجل أن يجنبه وأبناءه عبادة الأصنام، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [5]، يقول ابن كثير مفسرا هذه الآية: “يَنْبَغِي لِكُلِّ دَاعٍ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِذُرِّيَّتِهِ”[6]. ولم يكتف خليل الرحمن بهذا الدعاء فقط بل أتبعه بأدعية أخرى تبين الحب الفطري للآباء اتجاه أبنائهم وفلذات أكبادهم، يضيف ابن كثير في تفسيره “ثُمَّ حَمِدَ رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى مَا رَزَقَهُ مِنَ الْوَلَدِ بَعْدَ الْكِبَرِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ أَيْ: إِنَّهُ لَيَسْتَجِيبُ لِمَنْ دَعَاهُ، وَقَدِ اسْتَجَابَ لِي فِيمَا سَأَلْتُهُ مِنَ الْوَلَدِ… ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ أَيْ: مُحَافِظًا عَلَيْهَا مُقِيمًا لِحُدُودِهَا وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أَيْ: وَاجْعَلْهُمْ كَذَلِكَ مُقِيمِينَ الصَّلَاةَ، رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ أَيْ: فِيمَا سَأَلْتُكَ فِيهِ كُلِّهِ” [7].

وفي موضع آخر دعا ربه أن يجعل الإمامة في ذريته، حيث قال الحق سبحانه: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [8].

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دعوة سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، فعن عبادة بن الصامت: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ، وكان آخرَ مَن بشَّر بي عيسى ابنُ مريمَ» [9]، يقصد صلى الله عليه وسلم دعاءَ سيدنا إبراهيم: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [10].

فإذا كان دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام قد أثمر ذرية طيبة اصطفاها الله لتكون من زمرة الأنبياء والمرسلين، منهم سيدنا إسماعيل وسيدنا إسحاق، فإن هذا الدعاء يبقى صالحا لنا نحن أيضا لنقتدي ونتمسك به في علاقتنا مع أبنائنا وفلذات أكبادنا.

ونأخذ نموذجا آخر في علاقة الأنبياء عليهم السلام مع أبنائهم، وهذه المرة على طرفي نقيض ذرية سيدنا إبراهيم عليه السلام، إنها قصة سيدنا نوح عليه السلام وابنه العاق لأبيه.

•  سيدنا نوح عليه السلام

يقول الحق سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [11]. في هذه القصة يجسد لنا الحق سبحانه تعالى فطرة الآباء لمحاولة إنقاذ أبنائهم من الكفر والضلال ودعوتهم المباشرة لركوب السفينة، ويفسر ابن كثير هذا الموقف بالقول، “وَقَوْلُهُ: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ هَذَا هُوَ الِابْنُ الرَّابِعُ، وَاسْمُهُ “يَامٌ”، وَكَانَ كَافِرًا، دَعَاهُ أَبُوهُ عِنْدَ رُكُوبِ السَّفِينَةِ أَنْ يُؤْمِنَ وَيَرْكَبَ مَعَهُمْ وَلَا يَغْرَقَ مِثْلَ مَا يَغْرَقُ الْكَافِرُونَ، قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ… فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ أَيْ: لَيْسَ شَيْءٌ يَعْصِمُ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ عَاصِمًا بِمَعْنَى مَعْصُومٍ، كَمَا يُقَالُ: “طَاعِمٌ وَكَاسٍ”، بِمَعْنَى مَطْعُومٍ ومكسُوّ، وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ” [12]. ولما رأى سيدنا نوح عليه السلام أن هلاك ابنه أمر محتوم، تحركت فطرته مرة أخرى ونادى ربه قائلا وَنَادَىٰ نُوح رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبنِی مِن أَهلِی وَإِنَّ وَعدَكَ ٱلحَقُّ وَأَنتَ أَحكَمُ ٱلحَـٰكِمِینَ (٤٥) قَالَ یَـٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَیسَ مِن أَهلِكَ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَیرُ صَـٰلِح فَلَا تَسـَٔلنِ مَا لَیسَ لَكَ بِهِۦ عِلمٌ إِنِّیۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلجَـٰهِلِینَ (٤٦) قَالَ رَبِّ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِكَ أَن أَسـَٔلَكَ مَا لَیسَ لِی بِهِۦ عِلم وَإِلَّا تَغفِر لِی وَتَرحَمنِیۤ أَكُن مِّنَ ٱلخَـٰسِرِینَ (٤٧)[13]. لذلك يرى ابن كثير أن هذا السؤال هو: “سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ وَكَشْفٍ مِنْ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنْ حَالِ وَلَدِهِ الَّذِي غَرِقَ، فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أَيْ: وَقَدْ وَعَدَتْنِي بِنَجَاةِ أَهْلِي، ووعدُك الْحَقُّ الَّذِي لَا يُخْلَفُ، فَكَيْفَ غَرِقَ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ؟ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أَيِ: الَّذِينَ وَعَدْتُ إِنْجَاءَهَمْ؛ لِأَنِّي إِنَّمَا وَعَدْتُكَ بِنَجَاةِ مَنْ آمَنَ مَنْ أَهْلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هُودٍ: ٤٠]، فكان هذا الولد مِمَّنْ سَبَق عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِالْغَرَقِ لِكُفْرِهِ وَمُخَالَفَتِهِ أَبَاهُ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا، عَلَيْهِ السَّلَامُ”  [14].

ويوضح القرطبي في تفسيره لما ذكره سيدنا نوح بالقول (إن ابني من أهلي): “(فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) أَيْ مِنْ أَهْلِي الَّذِينَ وَعَدْتُهُمْ أَنْ تُنَجِّيَهُمْ مِنَ الْغَرَقِ، فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ.

وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ يَعْنِي الصِّدْقَ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِنَّمَا سَأَلَ نُوحٌ رَبَّهُ ابْنَهُ لِقَوْلِهِ: “وَأَهْلَكَ” وَتَرَكَ قوله: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود: ٤٠] فَلَمَّا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ قَالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أَيْ لَا تَكُنْ مِمَّنْ لَسْتَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ مُؤْمِنًا فِي ظَنِّهِ، وَلَمْ يَكُ نُوحٌ يَقُولُ لِرَبِّهِ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي إِلَّا وَذَلِكَ عِنْدَهُ كَذَلِكَ إِذْ مُحَالٌ أَنْ يَسْأَلَ هَلَاكَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ يَسْأَلُ فِي إِنْجَاءِ بَعْضِهِمْ، وَكَانَ ابْنُهُ يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نُوحًا بِمَا هُوَ مُنْفَرِدٌ بِهِ مِنْ عِلْمِ الْغُيُوبِ، أَيْ عَلِمْتُ مِنْ حَالِ ابْنِكَ مَا لَمْ تَعْلَمْهُ أَنْتَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ مُنَافِقًا، وَلِذَلِكَ اسْتَحَلَّ نُوحٌ أَنْ يُنَادِيَهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: كَانَ ابْنُ امْرَأَتِهِ، دَلِيلُهُ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ “وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهَا” [15].

لكننا نقف مع جواب ربنا لسيدنا نوح عليه السلام إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَیرُ صَـٰلِح، جاء في الحديث النبوي الشريف “أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»” [16]. يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله معلقا على هذا الحديث الشريف “أول علم نستفيده من هذا الحديث الكريم هو أن الولَدَ من عمل الإنسان. الولَدُ خلْقُ الله وعمل الإنسان. الإنسان مسؤول عن ذنوبه يُعاقب عليها إلا أن يتوب فيغفرَ الله له، مجازىً على حسناته إن تقبلّها الله الكريم قَبولا حسنا.

إذا استقر لدينا، والحديث دليـل قاطع، أن الذريَّة -صالحةً أو فاسدةً- هي من عمل الإنسان، لا ينفي كونُها خلقا لله كونَها عمَلاً للإنسان، فقد توجّه أمامَنَا عِظَمُ مسؤولية الإنسان عن ذريته: تصلح إن أصلحها، وتَفْسُدُ إن أساء تنشِئتها. فيترتب على هذا المنطقِ المستنير بنور الوحي ونور التوجيه النبوي منهاج المسؤولية البشرية عن صلاح الأجيال وفسادها. لا يهدي للصلاح إلا الله، لكن الهداية الإلهية يقيض الله لها بشرا يهدون. والغَوَايَةُ تضليل من شيطان جن أو شيطان إنس” [17].

ويؤكد الإمام المجدد رحمه الله في موضع آخر أن الولد هو من عمل ابن آدم سواء كان صالحا أو فاسدا بالقول “فجعل الولد عملا، والعمل أنت المسؤول عن صلاحه أو فساده. وقال الله عز وجل يخاطب نوحا عليه السلام لما سأله في ابنه: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. فجعل الولد من عمل المرء. وذاك ولد ما قصر والده عليه السلام في إرشاده للخير إلى آخر نفس. فارتفعت مسؤولية الأب العبد نوح، وبقيت مشيئة الخالق الرب تبارك وتعالى” [18].

فإذا تأكدنا بما لا يدع مجالا للشك أن الولد من عمل ابن آدم سواء كان صالحا أو فاسدا، فإن الدعاء ولزوم باب المولى عز وجل مما يعين على هذا العمل ليثمر ثمرة طيبة مباركة، وهذا هو دعاء عباد الرحمن الذين ذكر الحق سبحانه وتعالى أوصافهم في أواخر سورة الفرقان.

 • عباد الرحمن

يقول الحق سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [19]. يقول ابن كثير مفسرا هذه الآية “وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ يَعْنِي: الَّذِينَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ مَنْ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنُونَ مَنْ يَعْمَلُ بِالطَّاعَةِ، فتقرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ صَبَاحَةً وَلَا جَمَالًا وَلَكِنْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونُوا مُطِيعِينَ.

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -وَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ- فَقَالَ: أَنْ يُري اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنْ زَوجَتِهِ، وَمِنْ أَخِيهِ، وَمِنْ حَمِيمِهِ طَاعَةَ اللَّهِ. لَا وَاللَّهِ مَا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَرَى وَلَدًا، أَوْ وَلَدَ وَلَدٍ، أَوْ أَخَا، أَوْ حَمِيمًا مُطِيعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج فِي قَوْلِهِ: هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ قَالَ: يَعْبُدُونَكَ وَيَحْسُنُونَ عِبَادَتَكَ، وَلَا يَجُرُّونَ عَلَيْنَا الْجَرَائِرَ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَعْنِي: يَسْأَلُونَ اللَّهَ لِأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ”  [20].

ويؤكد على نفس المعنى الألوسي بالقول: “والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِن أزْواجِنا وذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أعْيُنٍ بِتَوْفِيقِهِمْ لِلطّاعَةِ، كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، وعِكْرِمَةَ، ومُجاهِدٍ، فَإنَّ المُؤْمِنَ الصّادِقَ إذا رَأى أهْلَهُ قَدْ شارَكُوهُ في الطّاعَةِ قَرَّتْ بِهِمْ عَيْنُهُ، وسُرَّ قَلْبُهُ، وتَوَقَّعَ نَفْعَهم لَهُ في الدُّنْيا حَيًّا ومَيِّتًا، ولُحُوقَهم بِهِ في الأُخْرى، وذُكِرَ أنَّهُ كانَ في أوَّلِ الإسْلامِ يَهْتَدِي الأبُ والِابْنُ كافِرٌ، والزَّوْجُ والزَّوْجَةُ كافِرَةٌ، فَلا يَطِيبُ عَيْشُ ذَلِكَ المُهْتَدِي، فَكانَ يَدْعُو بِما ذُكِرَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: قُرَّةُ عَيْنِ الوالِدِ بِوَلَدِهِ أنْ يَراهُ يَكْتُبُ الفِقْهَ، و(مِن) ابْتِدائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ(هَبْ) أيْ: هَبْ لَنا مِن جِهَتِهِمْ” [21].

فمن صفات عباد الرحمن من خلال هذه الآية أنهم يسألون الله تعالى أن يجعل ذريتهم قرة العين، يقول الإمام المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله “إن لعباد الرحمن دعاء جاء في القرآن يهـدي إلى الرشد في توصيل الدعوة بالأسرة، وفي تعاون المؤمن مع أهله وذريته. قال الله تعالى عن عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا. تقوى وإيمـان وإمامة وبيت فيه قرة العين. هذا من ذاك، وذاك من هذا” [22]. ثم يضيف رحمه الله في موضع آخر ويعتبر أن هذا الدعاء من فضائل عباد الرحمن الحميدة وأخلاقهم المجيدة وعباداتهم الرشيدة، وهو دعاء مشترك بين الزوج والزوجة؛ “والسعادة الأخروية لا يحتكرها من يدعيها من المترهبين. هاهم أولاء عباد الرحمن مستقرين أزواجا في أسرتهم مع ذرياتهم. من فضائلهم الحميدة وأخلاقهم المجيدة وعباداتهم الرشيدة أنهم يدعون ربهم هنا في الدنيا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (الفرقان، 74). يقوله الزوج الرجل وتقوله الزوج المرأة. والذرية الصالحة والوُد بين الزوجين سعادة تبدأ من هنا في الدنيا قرةَ عين. قرة العين غاية السرور. والذي يفرح له المؤمن وتفرح المؤمنة فوق كل شيء الاطمئنان إلى أنهما وذريتهما سائران في طريق السعادة الأخروية”  [23].

2. الموعد دعاء الرابطة

حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدعاء للأبناء ورغب فيه واعتبره من الأدعية المستجابة:

ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ» [24].

ـ عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ وَدَّاعٍ الْخُزَاعِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «دُعَاءُ الْوَالِدِ يُفْضِي إِلَى الْحِجَابِ[25]» [26].

كما نهانا صلى الله عليه وسلم أن ندعو على أبنائنا وفلذات أكبادنا:

ـ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ» [27].

والدعاء للولد ليس له وقت محدد، لكن والتماسا لبركة الوقت ندبنا المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله للدعاء مع الأبناء في دعاء الرابطة قائلا “فينبغي للمؤمن أن يدعو بدعاء الرابطة، والأفضل وقت السحر عندما ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا يدعونا هل من تائب وسائل ومستغفر، أو متى تيسر ذلك فيفتح دعاءه بسورة الفاتحة ثم الصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويستغفر الله لذنبه ويسأل الله لنفسه ولوالديه وأهله وولده وذوي رحمه خيري الدنيا والآخرة” [28].

3. دعاء الآباء للأبناء وأثره في ترسيخ المحبة

من المعلوم أن محبة الآباء لأبنائهم محبة قوية وحقيقية غير مصطنعة نابعة من القلب، بل هي من الغرائز التي فطر الله الناس عليها، وتتجاوز ابن آدم إلى خلق الله أجمعين، وهي رحمة كلها، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه «جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ، فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ في الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذلكَ الجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الخَلَائِقُ، حتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عن وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» [29].

وهذه المحبة هي ثمرة الدعاء يقول الإمام المجدد رحمه الله تعالى “وبهذا الدعاء يشعر المؤمن بانتمائه إلى الموكب النوراني -موكب الإيمان والجهاد- من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، فيدخل الداعي في بركة أمة الخير التي تولاها الله عز وجل، ويزداد صلة إيمانية ومحبة بمن يدعو لهم عن ظهر غيب من إخوته” [30]. والإمام المرشد رحمه الله يقصد هنا دعاء الرابطة مع الإخوان وما يثمره من محبة، ويتسع هذا الأمر – لا شك في ذلك – إلى الأبناء والزوجة والأقارب.

نأخذ كلاما نفيسا للخبير الأسري الأستاذ عبد الله الشيباني أورده في أحد حواراته حول دعامات بناء حياة أسرية ناجحة وأساسها الدعاء، فهو كما جاء في التقديم “الدعاء يجمع الأزواج على الله، وبه يكون المدد والمعونة، وبفضله تسهل الحياة التي تبدأ في الدنيا وتمتد إلى الآخرة ٱدخُلُوا ٱلجَنَّةَ أَنتُم وَأَزوَ جُكُم تُحبَرُونَ [31].

الدعاء للزوج والزوجة والأبناء يدخلنا في دائرة العناية الربانية، وفي محبة الله والقرب منه، ويعطيك القوة على محبة زوجتك وأطفالك، وكي ترحمهم وتحترمهم يلزمك المصدر الذي تأخذ منه، وهو علاقتك بالله عز وجل. وبذلك أصبحت هذه الخصلة هي الأهم، وبها ترتبط جميع الدعامات، فهي تمثل النواة والمركز الذي تشع منه الخصال العشر، ففي الدعاء أصل الخصال ونورها وفهمها، لذلك فهي مهمة جند الله.

فقلب غير المحب لا يحب، فالمحبة والرحمة القلبية تأتي من ذكرك لله عز وجل، وهذه المحبة هي لب الصحبة، فالزوج يلزم أن يعيش صحبة مع زوجته، والقرآن سماها “صاحبته”، والمحبة تأتي من القرب من الله عز وجل، فإن كنت تحب الله عز وجل وتحب رسوله صلى الله عليه وسلم وتحب من ينفعك حبه عنده، يعمر قلبك رحمة واحتراما يمكنك بذلهما لبناء العلاقة مع الزوجة ومع الأبناء.

وزاد شارحا “الثقة مثلا؛ كي تكون لديك فيمن حولك يلزم أن تكون لديك ثقة في الله عز وجل الذي يمنحك الثقة في نفسك فتستطيع تقديمها لأبنائك، حسن الظن أيضا؛ يلزم أن تحسن الظن بالله عز وجل ما يجعلك تحسن الظن بزوجتك وزوجك وأبنائك.. إلخ”.

واعتبر الأستاذ الشيباني أن “كل هذه المعاني يجب أن تَمْتَحَ وتتغذى من علاقتك بالله عز وجل، ولبها هو التوجه إلى الله عز وجل. فعلى قدر ما يعمل الزوج والزوجة – وهما ركيزتا البناء الأسري – على نفسه في علاقته بالله صحبة وذكرا وصدقا، وعلى قدر توفر هذه الشروط فيه واكتسابه لها يكون لديه من القوة والطاقة والصبر والرحمة ما به يستطيع بناء الرحمة مع زوجته وأبنائه…

 وبالدعاء تجدان القوة التي تمكنكما من تدبر حياتكما الأسرية المتزنة، وتجدان أيضا الفرصة للتحدث عن الرابطة. فهناك فرق بين العلاقة والرابطة، الرابطة أقوى من العلاقة، بل الله سبحانه وتعالى سماها الميثاق الغليظ، والميثاق أقوى حتى من الرابطة. وعندما نتكلم عن الدعاء نتكلم عن دعاء الرابطة، الذي يربط بين القلوب، وهذه الرابطة هي سر النجاح. معتبرا أن هذه الرابطة الأفقية لابد لها من رابطة عمودية تستمد منها قوتها. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لدعاء الرابطة الذي يربطنا بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبصالح عباد الله، ويربطنا بعضنا البعض سواء على المستوى العائلي الصغير أو المستوى العائلي الكبير.

خاتمة

وفي ختام هذا الموضوع المطلوب من كل والد ثلاثة أمور:

أولها: أكثر من الالتجاء إلى الله تعالى في أن يصلح أبناءك.

ثانيها: أسمع أبناءك صوت دعائك لهم. 

 ثالثها: احذر أن تدعو عليهم، فإن دعاءك عليهم شقاءٌ لهم، وشقاؤهم لا يسرُّك. فقد جاء رجلٌ إلى عبد الله بن المبارك يشكو له عقوقَ ولده، قال له عبد الله: أكُنْتَ تدعو عليه؟ قال: نعم، قال: أنت أفسَدْتَه.


الإحالات:

[1] سورة البقرة، 186.

[2] أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه من حديث أنس بن مالك. رقم 871.

[3] أخرجه الترمذي (3370)، وابن ماجه (3829)، وأحمد (8748).

[4]- سورة الصافات، 100.

[5] سورة إبراهيم، 35.

[6] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير.

[7] المرجع نفسه.

[8] سورة البقرة، 124.

[9] الألباني، السلسلة الصحيحة. رقم 1546.

[10] سورة البقرة، 129.

[11] سورة هود، 42 – 43.

[12] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير.

[13] سورة هود 45 – 47.

[14] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير.

[15] جامع الأحكام، القرطبي.

[16] أخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثّواب بعد وفاته، رقم: 1631.

[17] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج2، ص: 220.

[18] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص: 265 – 266.

[19] سورة الفرقان، 74.

 [20] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير.

[21] روح المعاني، الآلوسي.

[22] سنة الله، م. س. ص: 275 – 276.

[23] تنوير المؤمنات، م.س. ج1، ص: 14.

[24] أخرجه أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء بظهر الغيب، رقم: 1536، واللفظ له. والترمذي، كتاب البر والصلة باب ما جاء في دعوة الوالدين، رقم: 1905. وهو حديث حسن.

[25] أي: لا يحول بينه وبين الإجابة حائل. انظر: عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، ج1 ، ص: 219.

[26] أخرجه ابن ماجه، باب دعوة الوالد ودعوة المظلوم، رقم: 3863، قال البوصيرى في مصباح الزجاجة: «فيه مقال»، 4/149، وفي سنده جهالة حبابة بنت عجلان وأمها أم حفص وصفية بنت جرير .انظر : شعب الإيمان، ج1، ص: 219.

[27] أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، رقم: 3009. وأبو داود في كتاب الصلاة، باب النهي عن أن يدعو الإنسان على أهله وماله، رقم: 1532، واللفظ له. انظر: شعب الإيمان، ج1، ص: 219.

[28] عبد السلام ياسين، يوم المؤمن وليلته، ص31.

[29] أخرجه البخاري (6000)، ومسلم (2752) واللفظ له.

[30] يوم المؤمن وليلته، م.س. ص 25.

[31] سورة الزخرف، ص: 70.