لكون الملك أميرا للمؤمنين فهو المعد والموجه للسياسة الدينية بالبلاد، ما يجعل باقي المؤسسات الدينية الرسمية وفاعليها تابعين له ومنفذين طيعين لمخططاته، ولكونه حسم أمر علاقة الدين بالسياسة بجمعهما لديه حصريا، فان هؤلاء الفاعلين محظور عليهم الاشتغال بالسياسة، فتخصصهم هو المجال الديني فالنقاش السياسي الآن محله هو البرلمان والنقاش المحلي محله هو الجماعات المحلية، والنقاش المجتمعي في السياسة وفي مختلف القضايا يتم في دائرة الحريات العامة التي في إطارها تنشر الصحافة ما تنشره…أما الدين والخطط الدينية فلها تقاليدها في عدم التخصيص بمعنى لا تخصص، فلا تقوم بدور القاضي ولا بدور النيابة العامة ولا بدور التفتيش ولا غير ذلك فقط تبقى محترمة) 1 .
فرغم أن الملك الحسن الثاني رحمه الله في سنوات السبعينات وبسبب الظروف السياسية التي كانت تمر منها البلاد أكد أن دور الفقهاء والمجالس العلمية يجب أن يتجاوز حدود نواقض الوضوء وموجبات الغسل لينفتح على مشاكل الناس، بل ويواجه الغزو الخارجي)span class=”note” 2 ، فإن المتغيرات السياسية التي عرفتها فترة الثمانينات جعلت الملك … يؤكد أن النهي عن “المنكر” يجب أن لا يتجاوز “حدود القلب”، وأن مجال الفقهاء ينحصر في العبادات دونما إقحام “علمهم” فيما يجري خارج بيوت الله) 3 ، فقد أكد في كلمة له للعلماء بأن دروسهم ليست دروسا للسياسة، حينما أقول السياسة أقول السياسة اليومية، لا أقول سياسة التخطيط … لا أقول السياسة الظرفية، إياكم الدخول فيها، لا يعنيكم فيما إذا ارتفع سعر الوقود أو سعر الدخان) 4 .يسعى النظام إذن إلى تحييد مؤسسات العلماء الرسمية من الاشتغال بالسياسة، وقصر مهمتهم في الاختلاط بالناس ليربوهم ويعظوهم بدون التحدث معهم في اليومي المعيش، حاملون رسميون للخطاب الديني الذي يحارب “الانحرافات الأجنبية” و”حركات الهرطقة” لكن في حدود رواتبهم، داخل حرمة المسجد وبين صلاتي المغرب و العشاء) 5 .
فمادام “العالم” يخضع لوصاية أمير المؤمنين لا ينبغي له أن يحشر نفسه في حقل “الملكية الدستورية” وهو حقل الحريات العامة والديمقراطية) 6 ، وهذا ما جعل من العلماء يؤدون دور المساعدين للعمال من أجل السهر على تحديد استقامة المعتقد، وعلى مطابقة المواعظ مع مسيرة السلف الصالح، وعلى القيام بالترخيص ببناء المساجد) 7 .
هذا التحييد من الاشتغال بالسياسة، تكرس أكثر بعد إعادة هيكلة الحقل الديني بعد أحداث التفجيرات الإرهابية ل16 ماي2003، إذ سيتم الاستمرار في إدماج العلماء في ظل إمارة المؤمنين، والذي يقتضي بشكل ملزم:)– ضرورة إبعاد العلماء عن السياسة.)– تأكيد الرؤية الملكية للوظيفة الدينية للعالم كسلطة معرفية.)– تفعيل الدور السياسي الديني لإمارة المؤمنين.)– دعم إستراتيجية قداسة المؤسسة الملكية سياسيا ودينيا) 8 .
فقد تم إدماج العلماء في الاستراتيجية العامة للدولة، يدافعون عنها بما يقوي إمارة المؤمنين، مثل تلك الردود والاحتجاجات القوية لجميع المجالس العلمية على رسالة “مذكرة إلى من يهمه الأمر” التي بعثها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله إلى الملك محمد السادس سنة 2000. وكذلك ما حصل أثناء فترة الحملة للتصويت على دستور 2011، إذ تم تعميم خطبة موحدة ليوم الجمعة 24 يونيو دعت المغاربة إلى “المشاركة الفعالة في عملية الاستفتاء والاستجابة لذلك بقول نعم تأدية لشهادة مطلوبة شرعا”، وطاعة لولي الأمر أمير المؤمنين) 9 . وما تلاه من إصدار لأعضاء المجلس العلمي الأعلى لبيانهم الشهير يباركون فيه “كل ما جاء في الدستور الجديد” وأنهم “معتزون بحكمة أمير المؤمنين وتبصره”) 10 .
على العموم فالسلطة الحاكمة عملت على إبعاد العلماء عن السياسة وشؤون الدولة وبالتالي فإنها تسعى لجعل أبحاثهم واجتهاداتهم محصورة في فقه العبادات وقضايا الأسرة وبعض المعاملات التي لا تمس جوهر السياسة العامة للدولة) 11 ، فهم مكلفون بصيانة وحدة الأمة على مستوى الثوابت الدينية للمملكة وحماة الأرثوذوكسية الدينية وليس كحماة للشريعة أو كمجتهدين، وهكذا تحول علماء المغرب إلى أجراء قائمين على تدبير العبادات) 12 .
كما تؤكد المصادر التاريخية عن انحراف في صفوف علماء رسميين فمثلا في سنة 1930 أيد العلماء الرسميون “الظهير البربري” الهادف إلى تقسيم المغاربة على أساس عرقي، وكان في مقدمة المتحمسين لمخطط التقسيم العالم أحمد بن الجيلالي لمغاري رئيس المجلس العلمي لعلماء القرويين بفاس) 13 . وقد قال عن أمثال هؤلاء الداعية الإسلامي شكيب أرسلان لقد ظهر من العلماء الرسميين في مسألة “الظهير البربري” نذالة تامة بل هي لا مراء نوع من الردة لأنهم كانوا يوبخون الشبان والعامة على هيجانهم تزلفا للفرنسيين، وبعضهم لأجل تسويغ هذه المؤامرة على دينه كان يقول إن البربر أكفر من الإفرنج) 14 .
وقام أغلب العلماء في منطقة الاحتلال الإسباني بوضع أنفسهم رهن إشارة ضباط الاستعمار، وأصدروا فتوى تلزم المسلمين بالانخراط في جيش فرانكو) 15 ، الذي عاث فسادا وتقتيلا في الريف في عشرينيات القرن الماضي.
ولا يجب نسيان بأن إبعاد الملك محمد الخامس رحمه الله عن العرش تم بغطاء ديني لعلماء، إذ قاموا يوم 13 غشت 1953 في قصر الباشا لكلاوي بمبايعة محمد بن عرفة “إماما للمؤمنين”) 16 .
كما أن صمت العلماء الرسميين عن مجموعة من الأحداث التي عرفها المغرب كأحداث 23 مارس 1965 وما عرفته سنوات الرصاص من تعذيب واختطافات وتقتيل ومقابر جماعية، فسروه بأنهم لا يمارسون السياسة ولم يصدقهم أحد لأنهم لا يتوقفون عن إصدار الفتاوى السياسية تحت غطاء الدين كلما طلبتها منهم السلطة) 17 .
[2] عز الدين العلام، فواصل الأيام، حدود التقاطع بين الدين والسياسة في المغرب الراهن، على موقع:www.alittihad.press.ma\
[3] نفسه.\
[4] الحسن الثاني، خطاب ملكي في الدورة الأولى للمجلس العلمي الأعلى بتاريخ 18 يوليوز 1982.\
[5] محمد الطوزي، الروحانية والدين التقارير الموضوعاتية. تقرير50 سنة من التنمية البشرية. ص38. على القرص المدمج المرفق بكتاب المغرب الممكن. إسهام في النقاش العام من أجل طموح مشترك. مطبعة دار النشر المغربية. الدار البيضاء. المغرب. طبعة 2006م. ص 48.\
[6] محمد ضريف تاريخ الفكر السياسي المغربي، مطابع إفريقيا الشرق، الطبعة الثالثة 1990، ص 303.\
[7] ريمي لوفو، الفلاح المغربي المدافع عن العرش، ترجمة محمد بن الشيخ، منشورات وجهة نظر، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 2011، ص 300.\
[8] عبد الرحمن الشعيري منظور، العلماء في المغرب: محاولة في التصنيف، مجلة منار الهدى، العدد 15 ـ 2010 ص 88ـ89.\
[9] تقرير المغرب في سنة 2011، إشراف عمر احرشان، مطبعة المعارف الجديدة الرباط، الطبعة الأولى، 2012، ص 61.\
[10] نفسه.\
[11] عبد العلي مسؤول، حوار لمجلة منار الهدى العدد 15ـ2010، ص124.\
[12] ادريس ولد القابلة، النظام والمسألة الدينية بالمغرب، 1 فبراير 2004 على الرابط: www .diwanalarab.com/spip.php ?article749Q\
[13] محمد حسن الوزاني، مذكرة حياة وجهاد، نشر مؤسسة الوزاني 1986، ج3، ص84. نقلا عن عبد الله رشد، المغرب والجلادون. صفحات من تاريخ الاستبداد. المطبعة الوراقة الوطنية. مراكش. الطبعة الأولى 2012، ص184.\
[14] الحسن بوعياد، الحركة الوطنية والظهير البربري، دار الطباعة الحديثة الدار البيضاء 1979، ص 88.\
[15] عبد الله رشد، مرجع سابق، ص 185.\
[16] نفسه، وكان على رأس الموقعين على البيعة الحسن مزور المفتي الأكبر لمدينة فاس، والطائع بلحاج رئيس المجلس العلمي، وكانت البيعة تحمل توقيع أزيد من 100 عالم من علماء فاس كلهم ينتمون إلى جامعة القرويين.\
[17] نفسه، ص 188.\