دراسة تأصيلية تحليلية لمطلب المساواة في الإرث بين الرجال والنساء

Cover Image for دراسة تأصيلية تحليلية لمطلب المساواة في الإرث بين الرجال والنساء
نشر بتاريخ

تقديم

يشهد العدو قبل الصديق بأسبقية الإسلام في إقرار حقوق النساء ومنها اعترافه لها بكامل إنسانيتها ومن ذلك حقها في التملك، وهكذا منحت الشريعة الربانية للنساء نصيبا من إرث الآباء والأقارب مما قل منه أو كثر، غير أن الملاحظ كون حصص المستحقين للتركة شرعا ذكورا وإناثا من نفس الجهة والدرجة والقوة ليست متساوية في جل الحالات، بل غالبا ما تخضع للقاعدة الإرثية:  للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن كان أخذ المرأة نصف حصة الرجل في الإرث له ما يبرره في الأزمنة السابقة حيث كانت المرأة لا تتحمل أي عبء مادي في الأسرة، بل هي – في جميع مراحل حياتها– تحت كفالة رجل من أقربائها، فإن الوضع يختلف بتاتا في زماننا الحاضر حيث تتحمل المرأة بجنب الرجل تكاليف العيش، بل قد تتحمل لوحدها المسؤولية المادية لأسرتها ولو بوجود الزوج في الكثير من الحالات كما تؤكد ذلك العديد من الدراسات والإحصائيات.

بسبب هذه التغيرات الاقتصادية والسوسيولوجية التي تعيشها مجتمعاتنا الإسلامية، تتهامس أصوات وتتعالى أخرى مطالبة بـ” إنصاف المرأة ورفع كل أشكال التمييز ضدها “، ومن ذلك الدعوة إلى إعادة النظر والاجتهاد في نصوص المواريث باعتبار أن الحكم يتغير بتغير الأحوال والأزمان.

بناء على ما سبق، ولأجل تأصيل شرعي لكل ما يرتبط بقضايا المرأة وهمومها، وعملا على رفع الظلم عن هذه الأمة وتحقيق العدل الالهي بتحكيم شرع الله سبحانه، ولغاية بلورة تصور أصيل حول كل المطالب النسائية المطروحة، وحتى لا نبقى في موقف المنتظر لما قد تثيره الأطراف الأخرى من قضايا مرتبطة بنساء الأمة تحت شعار تحقيق العدل والمساواة بين الرجال والنساء ورفع كل أشكال التمييز ضد المرأة… للرد عليها تبريرا ودفاعا، يأتي هذا البحث لتأصيل قضية من القضايا النسائية العديدة؛ قضية إرث المرأة في الإسلام وما يرتبط بها من قضايا ذات صلة، وعلى رأسها مطلب المساواة بين المرأة والرجل في الحصة المستحقة من الإرث.

فما هي فلسفة الإسلام بخصوص نظام الإرث؟ وما هي مقاصد تفاوت حصص الإرث بين النساء والرجال؟

هل تغير واقع الأمة اقتصاديا واجتماعيا وتحمل المرأة المسؤولية المالية أو لجزء منها مسوغ للمطالبة بالمساواة في الإرث بين الرجال والنساء، والاجتهاد في تحديد أنصبة الورثة؟ هذه الأسئلة وغيرها سنحاول مقاربتها في هذا البحث من خلال التأصيل الشرعي لهذه القضية وهذا المطلب.

المبحث الأول: إرث المرأة؛ قراءة كرونولوجية

أجمل الله تعالى موضوع الإرث وما يرتبط به من أحكام وقضايا في أربع آيات هي: الآيات 11-12-13-176 من سورة النساء.

ولا يشك أحد في أهمية علم المواريث ووجوب تعلمه لارتباطه بالمال عصب الحياة، وضرورة من ضرورياتها ومقوم من مقوماتها، ومن ثم جاءت الشريعة بأحكامها تدعو الإنسان إلى المحافظة على المال الذي استخلفه فيه باستثماره وترويجه لإنمائه والانتفاع به، حتى إذا وافت المنية صاحبه، جاء حكم الله الفاصل والحاسم في شأنه بإعطاء كل ذي حق حقه: فريضة من الله، إن الله كان عليما حكيما[1].

لكن لما كان الإنسان ظلوما جهولا، فقد أثار ما أثار حول هذه القسمة الإلهية خصوصا فيما يتعلق بنصيب المرأة فيها: قديما باستغراب استحقاقها نصيبا من الإرث ورجاء التراجع عن ذلك أو نسيانه، وحديثا باستنكار حصتها مقارنة مع حصة الرجل.

لم يخصص المفسرون لميراث المرأة حديثا منفردا اللهم إلا من باب الإشارة والتذكير بأسبقية الإسلام إلى إشراك المرأة في استحقاق الإرث بعدما كان ذلك حكرا على الرجال الفرسان المقاتلين المدافعين عن الديار. ولا عجب في ذلك، فالمفسر – وهو يتناول آيات الله وأحكامه بالتفسير- تحكمه أمور من واقع عصره، وتلح عليه “قضايا مجتمعية” من صميم واقعه، ليجد نفسه مضطرا للحديث عنها وإيجاد مقاربة لها ضمن تفسيره للقرآن، ولما كان ميراث المرأة – في عصر هؤلاء المفسرين– لا يطرح أي إشكال، بل يعتبر مكسبا للمرأة المسلمة –إن لم نقل محاباة لها– فإننا نجد المفسرين السابقين يتناولون ميراث المرأة من باب التذكير بهذا الامتياز الذي حباها الله تعالى به والذي وقع في نفوس بعض الصحابة موقع الدهشة والاستغراب، ففضلوا السكوت عن هذا الأمر أملا في أن يكون حكما مؤقتا سينساه رسول الله صلى الله عليه وسلم له أو يتراجع عنه. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها للولد الذكر، والأنثى، والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، ولا يحوز الغنيمة؟!! اسكتوا عن هذا الحديث، لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه، أو نقول له فيُغيّر، فقالوا: يا رسول الله تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس، ولا تقاتل القوم، ويعطى الصبي الميراث، وليس يغني شيئاً، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر”[2].

ومع بروز حركة الاستشراق، بدأ حديث المفسرين عن ميراث المرأة ينحو منحى آخر يتجلى في البحث عن الحكمة والمقصد من إعطاء المرأة نصف حصة الرجل ردا على ما بدأ يشاع على الإسلام من شبهات حول المرأة… وهكذا نلاحظ أن المفسرين في عمومهم بدؤوا يبرزون أن ميراث المرأة هو من باب رفع الظلم والحيف عنها، وأن الصيغة القرآنية: (للذكر مثل حظ الأنثيين) فيها إشعار بجعل “إرث الأنثى مقررا معروفا وأخبر بأن للذكر مثله مرتين، أو جعله هو الأصل في التشريع وجعل إرث الذكر محمولا عليه يعرف بالإضافة إليه…”[3].

ٱختلفت الروايات في سبب نزول آية المواريث؛ فروى الترمذيّ وأبو داود وابن ماجه والدارقطنِيّ عن جابر بن عبد الله أن ٱمرأة سَعْد ابن الربيع قالت: يا رسول الله، إن سعداً هلك وترك بنتين وأخاه، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن؛ فلم يجبها في مجلسها ذلك. ثم جاءته فقالت: يا رسول الله، ابنتا سعد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ادع لي أخاه” فجاء فقال له: “ادفع إلى ابنتيْه الثلثين وإلى ٱمرأته الثمن ولك ما بقي [4].

المبحث الثاني: الأسس المعتمدة لدى المطالبين بالمساواة في الإرث

إن ما يصطلح عليه بـ “قضايا النساء” ليس وليد لحظة تاريخية قريبة، بل لها جذور مرتبطة بحركة الاستشراق وما فتئت تثيره من شبهات وشكوك حول الإسلام قصد النيل منه ومن تعاليمه… وكذلك بالاستعمار وما واكبه من إفساد تغريبي وتمييع اجتماعي وغزو ثقافي… يستهدف المسلمين لإضعاف شوكتهم لتسهيل استعبادهم والسيطرة عليهم… والمدخل هو المرأة لعلمهم بأهميتها في المجتمع حيث هي حصنه الحصين إن أفلحوا في اختراقه فسيتحقق لهم ما خططوا له. لقد تم استغلال الواقع المزري المنحط الذي تعيشه المرأة المسلمة؛ والمرتبط من جهة بالانحطاط العام للمسلمين، وناتج من جهة أخرى عن قراءة المسلمين الجامدة لنصوص الشريعة والتي أنتجت فقها يؤصل لحبس المرأة وسجنها، فكان للمرأة القسط الأوفر من البؤس والتشرد… وجيلا بعد جيل تكونت حجب سميكة بين المسلمات وسماحة شريعة الله تعالى ورحمتها وعدلها، حجبا جعلت العديد من المسلمات يجدن ملجأ وبريق أمل في شعارات حقوق الإنسان وبنود المؤتمرات العالمية التي تدعي إنصاف المرأة بإقرار حقوقها والمطالبة برفع كل أشكال التمييز ضدها… وهكذا أصبحت نساء المسلمين يطالبن – بإملاء خارجي عبر التوقيع على بنود وتوصيات المؤتمرات الدولية- بجملة من المطالب منها تحقيق المساواة بين الرجال والنساء في أنصبة الإرث.

إن أول مطالبة علنية للمنظمات النسائية في المغرب بالمساواة في الميراث بين الذكر والأنثى كانت سنة 1991، وذلك في أشغال “مجموعة 95 المغاربية من أجل المساواة”، هذه المجموعة التي تأسست عقب الاجتماع الذي عقدته الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب في الرباط، بمشاركة جمعيات نسائية من تونس والجزائر والمغرب في إطار أشغال التنسيق المغاربي استعدادا للمشاركة في المؤتمر العالمي الرابع للنساء ببكين المنعقد سنة 1995م.

إن الملاحظ أن مطلب المساواة في الإرث يظهر ويختفي حسب الظروف العامة بخلاف المطالب النسائية الأخرى.  

ويرتكز دعاة المساواة في الإرث بين النساء والرجال على أسس منها:

     * رفع الظلم عن المرأة بإعمال “مبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات…”[5]، ومناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة… تفعيلا لبنود وقرارات المعاهدات الدولية التي وقعت عليها العديد من الدول الإسلامية ومنها المغرب.

      * تحقيق قيم العدل والمساواة – التي يكرسها الإسلام – بين الناس عموما، وبين المرأة والرجل خصوصا بفتح باب الاجتهاد. ليمتطي حسن حنفي على المبدأ الإسلامي الآنف الذكر مصرحا: “فبروح الإسلام أستطيع أن أطور هذه الأشياء وادفعها أكثر، وأجعل للمرأة إرادة كاملة وميراثا كاملا، إلا إذا كنتم تريدون أن تقتلوا كل مجتهد”[6].

 تأسيسا على ما سبق، سنخصص المبحث الموالي لمناقشة دعاة المساواة في الإرث انطلاقا من مرتكزاتهم المعتمدة، مع توضيح أسس نظام الإرث في الإسلام، للخلوص إلى مدى وجود حاجة أكيدة وضرورة ملحة للمطالبة بهذا الأمر.

المبحث الثالث: مناقشة وردود   

أولا: من حيث المنهج

إن الناظر في مطلب دعاة المساواة في الإرث يلاحظ جليا الخلل الحاصل لهم في طريقة تعاملهم مع النصوص الشرعية:

* فهم لم يعقلوا من علم الفرائض إلا الجزء من الآية الكريمة: … للذكر مثل حظ الأنثيين…[7]، فاستدلوا بها على ما أثاره –منذ زمن– المستشرقون وأذنابهم من المستعمرين من ظلم الإسلام للمرأة وتفضيل الرجل عليها بإعطائه ضعف ما أعطى للأنثى، بينما علم المواريث الذي يضبط توزيع التركة بعد استخراج الحقوق المتعلقة بها – جعله الله تبارك وتعالى في أربع آيات، فكيف يعقل أن نبني حكما ونثير قضية بناء على جزء صغير مقطوع من نص طويل؟

* فهم لم يغفلوا –في تعاملهم مع حكم الآية الكريمة– بقية أحكام الإرث فقط، بل تعاملوا مع حكمها بمعزل عن بقية أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالحقوق والواجبات بين الجنسين، في حين أن الشريعة كل متكامل، فإذا أردنا أن نفهم أحكامها، فلا بد أن ندرسها من جميع الجوانب لنكون على علم بما نتحدث عنه.    

ثانيا: من حيث المضمون

أشرنا سابقا أن أبرز مبررات دعاة المساواة في الإرث هو ادعاؤهم إنصاف المرأة وإقرار حقوقها ورفع الظلم والحيف عنها، لنؤكد أن تقسيم الميراث بين الذكر والأنثى في الإسلام ليس قائما على أساس المساواة التي تستلزم المماثلة في الحقوق والواجبات، بل هو قائم على أساس العدل الذي يتحقق في إطار منظومة متكاملة من الأحكام والتشريعات. إن أكثر ما يتعرض له ديننا من شبهات، ما هو إلا نتيجة للنظرة التفكيكية للمنظومة الإسلامية التي تأبى التجزيء، حيث يبتر الحكم وينظر إليه بشكل مفصول عن غيره وعما يكمله من أحكام، مثل النظر إلى حكم الله في قوله تعالى: …للذكر مثل حظ الأنثيين…[8] دون النظر إلى باقي الأنصبة الأخرى للأنثى من جهة، وإلى طبيعة الالتزامات المادية للرجل تجاه المرأة… وهنا تبرز ركيزة أساسية من مبادئ الإسلام ومقصد من مقاصده وهو العدل الذي يستلزم وضع الأمور في مواضعها، وهو مخالف لمبدإ المساواة الذي قد يتحول إلى ظلم إن وظف بحرفية دون مراعاة للفوارق. ولتكون دراستنا موضوعية، وردنا منطقيا، علينا تأمل آيات المواريث، واستقراء حالات إرث المرأة، ومقارنتها مع حالات إرث الرجل ومع باقي الأحكام الشرعية ذات الصلة، لندرس الموضوع في شموله. وليكون منهجنا في هذا الاستقراء وهذه المقارنة مضبوطا ومحكما، سنقارن بين نصيب المرأة والرجل من نفس الجهة: أب/ أم، ابن/ بنت، أخ/ أخت…، ومن نفس الدرجة: ابن/ بنت، ابن ابن/ بنت ابن، ومن نفس القوة: أخ شقيق/ أخت شقيقة، أخ لأب/ أخت لأب… وقد أسفر الاستقراء الذي قام به العلماء إلى النتائج الآتية:

      * أربع حالات فقط هي التي ترث فيها المرأة نصف حصة الرجل.

أضعاف الحالة الأولى ترث فيها المرأة مثل الرجل.

     * أكثر من عشر حالات ترث فيها المرأة أكثر من الرجل ( وقد أوصلها بعض العلماء إلى عشرين حالة اعتمادا على أقوال فقهية أخرى).

     * كثير من الحالات ترث فيها المرأة ولا يرث فيها نظيرها الرجل.

أمثلة من كل حالة

الحالة الأولى: الحالات الأربع فقط التي ترث فيها المرأة نصف حصة الرجل المساوي لها في الجهة والدرجة والقوة: بنت/ ابن (ويلحق بها: ابن ابن/ بنت ابن وإن سفل) – أب/ أم – أخ شقيق/ أخت شقيقة – أخ لأب/ أخت لأب.

الحالة الثانية التي ترث فيها المرأة مثل الرجل: ومن أمثلة ذلك:

¨     وجود الأم مع الأب ومعهما: ابن.

¨     وجود الأم مع الأب ومعهما: زوج- بنت.

¨     وجود الأم مع الأب ومعهما: بنتان.

¨     وجود الجدة لأم مع الأب ومعهما: ابن.

¨     وجود الجدة لأم مع أب وبنتين…[9]     

¨     حالة الإخوة لأم ذكورا وإناثا في حالة الكلالة: 6/1 لكل واحد منهما عند الانفراد، والاشتراك في فرض 1/3 بالتساوي بين الذكور والإناث في حالة التعدد[10].

¨      حالة المشتركة: زوج- أم أو جدة لأم- المتعدد من الإخوة لأم – أخ شقيق أو أكثر؛ فقد قضى سيدنا عمر وعثمان وزيد رضي الله عنهم بإشراك الأخ ( أو الإخوة الأشقاء) مع الإخوة لأم في 3/1 بالتساوي بين الذكور والإناث.

¨       تساوي نصيب الأخت لأم مع الأخ الشقيق في غير المشتركة: زوج – أم – أخت لأم- أخ شقيق.

¨       إلى غير ذلك من الأمثلة… وقد اكتفيت بما يفي بالقصد.     

   الحالة الثالثة: كثير من الحالات ترث فيها المرأة ولا يرث فيها نظيرها الرجل تجدر الإشارة إلى أن ميراث الأنثى أكثره بالفرض، وهو أفضل لها من التعصيب في أغلب الحالات، مع ملاحظة أن فرض 3/2 هو أكبر الفروض، ولا يرثه أي من الرجال بل ترثه النساء اثنتان فأكثر، كذلك فرض 2/1 لا يرثه إلا رجل واحد وهو الزوج، وترثه أربع نساء: البنت وبنت الابن والأخت الشقيقة والأخت لأب. وفيما يلي نماذج مقارنة بين نصيب كل بنت مقارنة مع نصيب الذكر من نفس جهتها ودرجتها وقوتها:

*       زوج- أم- أب- بنتان مقارنة مع زوج- أم- أب- ابنان.

*       زوج- أم- أختان شقيقتان مقارنة مع زوج- أم- أخوان شقيقان.

كان ذاك غيض من فيض الأمثلة التي ترث فيها المرأة دون الرجل.

الحالة الرابعة: الحالات ترث فيها المرأة ولا يرث فيها نظيرها الرجل. ومن الفرائض التي تمثل ذلك:

*       زوج- أب- أم- بنت- بنت ابن مقارنة مع زوج-أب- أم- بنت- ابن ابن.

*       زوج- أخت شقيقة- أخت لأب مقارنة مع زوج- أخت شقيقة- أخ لأب.

ونجد هذه الحالات متكررة في علم المواريث… بناء على ما تم جرده واستقراؤه آنفا من أمثلة ونماذج، يتبين لنا أن التمايز في الميراث لا تحكمه الذكورة والأنوثة، بل تحكمه معايير ثلاثة هي:

♦ درجة القرابة بين الوارث ذكرا كان أو أنثى وبين الموروث: فكلما قويت الصلة (جهة ودرجة وقوة) زاد النصيب في الميراث، وهذا التباين والتفاضل – بسبب ما ذكر- يكون بين أفراد نفس الجنس.

♦ موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال: فالأجيال التي تستقبل الحياة في العادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة، وذلك بصرف النظر عن ذكورة وأنوثة الوارثين: فالبنت ترث أكثر من الأم عند وجودهما معا في نفس المسألة وكلتاهما أنثى بل ترث البنت أكثر من الأب، والابن يرث أكثر من الأب وكلاهما من الذكور، فتوزيع أنصبة الورثة يراعي الحاجة: فالابن المقبل على الحياة بكل تكاليفها والتزاماتها يستحق نصيبا أكثر من الأب الذي هو مقبل على مفارقة الحياة…

♦ العبء المالي الذي يوجبه الشرع على الوارث القيام به حيال الآخرين، فهذا معيار ضابط يثمر تفاوتا بين الذكر والأنثى في إطار التوافق بين الحقوق والواجبات، وكذا في إطار الشمولية وعدم تبعيض النصوص الشرعية: فالذكر الوارث في حالة تساوي جهة القرابة ودرجتها مكلف بإعالة الأنثى الأم والزوجة والإبنة والأخت و… – مع التذكير والتأكيد أن حالات هذا التمييز محدودة جدا إذا قيست بعدد حالات المواريث الأخرى التي وقفنا عند نماذج منها -، فهي قائمة باعتبار التكامل والتناسق بين ما هو فطري كوني وما هو شرعي: فالدين الذي يعطي للزوج ضعف نصيب الزوجة، أو الابن نصف نصيب البنت وما شابه ذلك هو الدين نفسه الذي يلزمه بالنفقة عليها… وهذا منتهى التوافق والتكامل بين الحقوق والواجبات: فعلى قدر ما تأخذ على قدر ما تنفق، فالغنم بالغرم. إن القوانين الإسلامية مترابطة، والحكم الشرعي الذي يفرض للذكر مثل حظ الأنثيين هو عينه الذي يرتب التزامات على الرجل تفوق هذا ” الامتياز”.

نخلص مما سبق توضيحه وتحليله مما يتعلق بالأسس المعتمدة في توزيع أنصبة الورثة، ومن النماذج المقدمة لميراث الأنثى ونصيبها مقارنة مع نصيب الذكر من جهتها ودرجتها أن الاعتبار الذي يعتمده المطالبون بالمساواة هو اعتبار واه وباطل لأنه غير مطرد ولا يشكل قاعدة. إن قاعدة ” للذكر مثل حظ الأنثيين” تعتبر أساسا من أسس توزيع الميراث وليست قاعدة عامة ولا مطردة بدليل أن الحالات التي تخضع لهذه القاعدة قليلة بالمقارنة مع إعمال باقي الأسس التي يعتمد عليها نظام الإرث في الإسلام والتي تم تدارسها وتحليلها سابقا (الجهة- الدرجة- القوة). قد لا يختلف معنا دعاة المساواة في الإرث، لكنهم يدعمون مطالبهم بكون النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع قد تغير، حيث أصبحت المرأة تتحمل المسؤولية المادية للأسرة  – طوعا للرفع من مستوى عيش الأسرة، أو كرها بسبب عطالة الزوج أو الأب أو الإخوة…- ومن ثم المطالبة بالمساواة في الإرث بين الذكور والإناث، وهذا سيناسب تماما القاعدة التي تم تقريرها سابقا: “الغنم بالغرم ” إضافة إلى إنصاف المرأة ورفع ظلم الفقر عنها.

بناء على ما سبق، نطرح الأسئلة الموالية:

ما هي المساواة المطلوبة في المواريث؟ هل هي بين كل الورثة بحيث ما يرثه أي وارث يرثه كل الورثة بالتساوي مهما اختلفت جهات إرثهم ودرجة قربهم من الهالك؟ أو إن المساواة تهم الذكور والإناث من نفس الجهة والدرجة فقط؟ ما هي النسبة المائوية التي تمثلها مداخيل الإرث بالنسبة لباقي مداخيل أسرنا حتى نقيم كل هذه الضجة؟ إذا أعطيت الأنثى (البنت- الزوجة) نفس نصيب الذكر (الابن- الزوج) من الإرث هل سيرفع الظلم عن النساء؟ خصوصا أن المساواة في الإرث تستلزم المساواة بين الرجال والنساء في واجب النفقة على الأسرة قانونا لا مروءة أو اضطرارا !!! 

كيف نقسم الميراث بين ذكور وإناث من جهات ودرجات مختلفة؟ ألن يكون تفاوت بين الورثة؟ ومن ثم حصول ظلم بينهم؟

هل يعقل أن نزعزع نظاما ماليا اجتماعيا برمته يوزع الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء عدلا من أجل تحقيق مساواة تحمل ظلما لكل الأطراف؟

أليس الأجدر أن نعمل –بمعية كل الفضلاء– على تغيير واقع الظلم والفقر والبؤس والتفكك الأسري والتملص العائلي ليبرز عدل الإسلام جليا واضحا عوض أن ننادي بتغيير شرع الله ليساير واقعا مضطربا موارا؟

إن الناظر بموضوعية إلى نظام الإرث في الإسلام بالموازاة مع النظام المالي برمته، سيجد مجالا شاسعا ومرنا لإنصاف المرأة التي أضحت حقيقة تتحمل المسؤولية المالية للأسرة ( ست أسر من بين عشرة تعولها نساء) وذلك عبر إبرام العديد من العقود المالية: هبات مثلا حيث يجوز للأب أو الأم أن تهب للبنت نصيبا من الأموال في حياة الواهب تكون على شكل إعانات لها وضمانا لمورد رزق لها إلى جانب حصتها من الإرث. كما أن بعض فقهائنا تفطنوا إلى بعض الظلم الذي قد يطال المرأة من قسمة الميراث، فسلكوا مسالك شرعية مشروعة لتحقيق العدل في أمرها عبر إجراءات موازية دون المساس بجوهر نظام الإرث وأسسه وقواعده، وذلك من مثل إقرارهم حق الكد والسعاية للزوجة التي ثبت إسهامها في تكوين ثروة وممتلكات الزوج[11].

مما سبق، يتضح أنه لإحقاق العدل للمرأة ورفع الظلم عنها من الناحية المادية، لا يستلزم الأمر ولا يجدر توقيف العمل بالنصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة، وزعزعة نظام مالي اجتماعي اقتصادي، وما سيلحق ذلك من اضطراب وفوضى وتشتت ما بقي منجمعا من الروابط الأسرية و… بل يجب التفكير في إجراءات إدارية وقانونية تحمي المرأة ( خصوصا التي لا عائل لها) من البقاء عالة تتقاذفها التقلبات الاقتصادية من مثل صرف أجرة شهرية لها أو إلزامية تعليمها حرفة تقتات منها وتفعيل تنمية حقيقية لأجلها أو… بدل التجرؤ على شرع الله الذي في قسمة الميراث والذي ذيل بعض آياته بقوله تعالى: آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا، فريضة من الله، إن الله كان عليما حكيما[12].

 

————————————————————————

 

[1]- النساء/11.

[2]- التفسير الكبير(مفاتيح الغيب)،  أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي، الناشر: دار إحياء التراث العربي- بيروت، الطبعة الثالثة: 1420هـ:9/ 512.

[3]- الميزان في تفسير القرآن ، محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط1: 1417هـ/ 1997م: 4/213

[4]- سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السَِّجِسْتاني، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر: المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، كتاب الفرائض، باب: ما جاء في ميراث الصلب، حديث رقم: 2892: :3/121.

[5]- مجلة مقدمات، عدد خاص رقم 3، ص:94 [6]- مقتطف من حوار أجرته مجلة حقائق التونسية، عدد: 411، من 20 إلى 26 غشت 1993، عن مجلة “تربيتنا”، عدد مارس 2002.

[7]- النساء/من الآية11.

[8]- النساء/من الآية11.

[9]- في المثالين الأخيرين ترث الجدة مثل الأب رغم أنه أقرب منها إلى الهالك، فلو كان الإسلام فضل نصيب الرجل على المرأة مطلقا لعلة أنه رجل وهي امرأة، لما ساوى بينهما في هذا المقام أو في غيره.

[10]- إن التسوية في الميراث بين الذكور والإناث في هذه الحالة لاعتبار أنهم يدلون إلى الميت بالأم، فأصل توريثهم هنا هو الرحم، فهم ليسوا عصبة لمورثهم حتى يكون الرجل امتدادا له من دون المرأة، فليست ثمة مسؤوليات ولا أعباء مادية تقع على كاهله.

[11]- ابن عرضون نموذجا.

[12]- النساء/11.