عبرت الأستاذة المتخصصة في الفلسفة والتاريخ الدكتورة خديجة صبار، عن سعادتها بالمشاركة مع ثلة من المفكرين في ندوة “طوفان الأقصى والخطر الصهـيوني.. التداعيات الإقليمية والتحولات العالمية”، وأشادت بأن دعوتها إلى المشاركة في الندوة مكنتها من الاطلاع على كتب الإمام عبد السلام ياسين خصوصا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وهو طرح اعتبرته فريدا، معلنة أنها آثرت تناول القضية في فكر الإمام انطلاقا من: “الجذور والغايات: معالم نظرية ومنهجية”، بحكم اهتمامها بالقضية، كاشفة أنها قرأت مناهج متعددة، ووجدت منهج الإمام عبد السلام ياسين مختلفا.
تناولت مداخلتها مجموعة من المحاور: المرجعية الفكرية والمدرسة الفلسفية للإمام، دحض سردية التوراة وإنشاء إسرائيل القديمة في فكر الإمام، السلام والتعايش بالسيادة على الأمكنة والرموز، الإبراهيمية أخطر كابوس: التآمر الصهيوني العالمي، التوراة والتأويل الإيديولوجي للتاريخ، تجليات القيم الابراهيمية في النص التوراتي والنص القرآني.

وكشفت أن الدخول في حوار مع فكر الإمام مهمة ليست سهلة، بل تحد ومتعة، فهو من المفكرين القلائل الذين يمتلكون رؤية متماسكة ذات طابع شمولي فيما يتعلق بالمشروع الصهيوني، تفرزها ثقافة متعددة الاتجاهات والوجود، عميقة في الإسلام وقضاياه، وتركز على الأفكار غير التقليدية، وتتجاوز تلك التي حولت الدين إلى نمط. بيد أن ما ييسر حوار اليوم، تضيف المتحدثة؛ هو أن موضوعه محدد جدا، وهو القضية الفلسطينية.
وأضافت الدكتورة صبار أن جل مفكري ومثقفي العالم العربي والإسلامي، اهتموا بالأنوار لحد الافتتان، منذ الإمام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده حتى طه حسين. ولم ننتبه إلى أن التنوير استهدفنا كآخر للغرب، لأننا لم نساهم في إنتاجه، ولم تنبع الحداثة – سليلة فكره – من ظروف وجودنا بل فرضت علينا، لينكشف التنوير في الأخير مشروعا للسيطرة بعد أن غرس الكيان الصهيوني في أرضنا، وبالتالي فالصهيونية صناعة رأسمالية أوربية، إفراز لدولة الحداثة، ليتجلى الجانب الآخر للحداثة الليبرالية، في وجهها التخريبي ودورها في السيطرة والنهب، ليضحى التنوير غير مستنير للجزء الأكبر من البشرية الذي هو نحن. وتكتمل الصورة، تسترسل صبار، مع النيوليبرالية والسياسة الصهيوأمريكية المفتقرة إلى الأحكام الأخلاقية تجاه الآخر، وتتهاوى ترسانة المفاهيم التي بشرت بها الأنوار والحداثة.
أمام هذا الواقع أدرك الإمام من منظور خاص، تواصل الفاعلة الحقوقية، حقيقة المشروع الصهيوني وجذوره المنغرسة في التاريخ الغربي العميق، وحقيقة خطره برؤية بعيدة المدى، وندد بخطره واستحالة تعايش الكيانين العربي والصهيوني، وعالجه في سياق دقيق. فيما جلّ المعالجات الأخرى أفضت بالكيان أن أصبح مقبولا؛ تتسابق الأنظمة إلى إقامة علاقات معه، لأغراض دنيوية لا تمت للدين بصلة، ليكتسب وجوده -وهو الذي لا يملك الحق ولا المشروعية- اعترافا رسميا به في الأرض العربية، كأن استبدال تحرير فلسطين بجزء منها أصبح انتصارا تاريخيا.

في محور المرجعية الفكرية والفلسفية لمشروع الإمام، أقرت المتحدثة أن الإمام يستدعي الماضي، واستدعاء التاريخ عادة مقلقة للذين يعجزون عن مواجهة الحقيقة، ويسقطونه من حسابهم لطبيعة الصراع الإيديولوجي الإسلامي الصهيوني، ويحولونه إلى نزاع على رقعة جغرافية، بعيدا عن مصير شعب وتاريخ وهوية ممتلئة بمقوماتها، حتى بلغ الأمر إلى شطب فلسطين من مناهج التعليم تمهيدا إلى اقتلاع اسم فلسطين الأرض والشعب والتراث من عقول الأجيال.
وتابعت قائلة: إنه لا يمكن استيعاب موقف الإمام من القضية دون الرجوع إلى المرجعية الفكرية والمدرسة الفلسفية التي صاغت ملامح قناعاته؛ فهي، أي فلسطين “أم القضايا، وأعز دار الإسلام”، هذه مقتطفات من كلام الإمام، “أرض الرباط والجهاد وموئل الطائفة المنصورة”. ويقول في كتاب سنة الله: “فلسطين قضية عقدية مصيرية”، وهذه قولة يجب أن نتأملها كثيرا. وهو يبني تحليلاته على موقف عقائدي وجودي أزلي محدد، فهو لا يلتفت للمسائل الأخرى، القضية دينية إسلامية في حياة الأمة، استعادتها تتم من هذا المنظور، لا باعتبارها مسألة استعادة لحقوق شعب شرد من أرضه ودياره فحسب، بل لأنها قضية جامعة لأبناء الأمة، وتختزل أبعاد الصراع الحضاري والعقائدي لمشروعنا الإسلامي والمشروع الصليبي الغربية، باعتباره بداية المواجهة الحاسمة، وقد أظهر طوفان الأقصى هذه المسألة. مستدعية كلاما آخر للإمام يقول فيه: “فلسطين بداية المواجهة بين الحق والباطل، بين الجاهلية والإسلام، مع الجاهلية تنبأ بمملكة صهيون الألفية، ومع الإسلام وعد الله الذي لا يأتيه الباطل من يديه ولا خلفه، بالنصر المبين وبالخلافة على منهاج النبوة، وبظهور هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون”.
وأشارت إلى أن طريق تحرير فلسطين هو المنهاج النبوي بحسب تصور الإمام، الذي أحال إلى فرنان بروديل (Fernand Braudel) صاحب أكثر الأطروحات عمقا وشمولية وطرافة، حيث الحضارات من منظوره، تتميز بخاصيتين رئيسيتين: تتمثل الأولى في كون الحضارة تجسد واقعا ضمن الحقب الطويلة، بمعنى لا زال التاريخ مستمرا ولا بد للقضية أن تنتصر، والثانية في أنها تتجذر بقوة في فضائها الجغرافي، ونحن نرى موقف أهل غزة. ومن منطق فهم بروديل لمعنى الحضارات، اعتبر أن الإسلام غربا مضادا بكل الالتباسات التي تتضمنها كل معارضة عميقة، حيث تكون هناك منافسة وعداوة واقتباسا، والحضارة لا تقاس بمنجزاتها العمرانية والفنية وإنما تتميز أيضا بقدرتها على نحت صورة الآخرين الذين تربطنا معهم صورة اللاتكافؤ والمنافسة، وهذه الصورة بيّنها لنا طوفان الأقصى، بيّن لنا أمريكا، والغرب الأطلسي، وحقيقة الكيان الصهيوني.

فمقاربة الإمام للقضية، تردف المتخصصة في الفلسفة والتاريخ؛ تتميز بالعمق مقارنة بغيرها، وتحرير فلسطين خطوة لتحرير العالم من آخر الظواهر العنصرية الاستيطانية الفاشية، يقول في نص محكم: “إن الذي أردى المسلمين وفرقهم شعوبا بعد أن كانوا أمة واحدة هو نفس العامل الذي أسس الحضارة الباهرة، وإنه إن سرنا في خط النظام السياسي الذي ورثناه، فإنما نسير إلى حيث سارت الأندلس، وإلى حيث سارت وحدة باكستان… أليست فلسطين مهد الأنبياء أرض الإسلام عبرة لنا؟ وإذا كانت مهانة الجبناء تزداد نكُرا بعزة المكان والزمان الذي يهانون فيه، فما أمة كانت أهون منا وأجبن، لأن مسرح فضيحتنا كان على أعز أرض من دار الإسلام وفي زمن الناس فيه أقوياء أعزاء وعدونا بعد ذلك أحقر عدو وأنجسه لو كنا نستطيع قياما”، لتعقب بالقول إنها قولة عميقة جدا…
