عجبا لأمر هذا الكون الفسيح، كل ما فيه، كبيرا كان أو صغيرا أو حتى مجهريا، له دور يميزه، ولوجوده معنى وغاية يسعى لتحقيقها.
تأمل معي الطير؛ قوته لا تكفي لحمل حفنة قش، ورغم ذلك ما إن تشرق شمس ربنا حتى ينطلق في حيوية ونشاط ليبحث عن قوت يومه. تعلمنا الكائنات بمختلفها أن العمل هو المعادلة التي يحافظ بها الكون على توازنه. لكل وظيفة يؤديها باستمرار وبإتقان إلى أن يفنى. فلم نتكاسل نحن البشر؟ ولم نستسلم عند أول فشل؟
تستغرب عندما تفاجأ بعش صغير متشابك الخيوط في زاوية منفية من سطح البيت. من أين أتى؟ وكيف لم تنتبه لوجوده من اليوم الأول؟ ذلك لأن الإنجازات الكبرى التي تلفت انتباها تبدأ في صمت بخيط وقشة.
الآن تأمل معي الطريق الذي أتيت منه؛ ثانوية عامة، فاختبارات باكلوريا، فجامعة باختبارات من زحل أحيانا ومن عطارد أحايين أخرى.. فانتهى. ثم ماذا؟ ثم مرحلة البحث عن وظيفة، محملا بشواهدك التي كدحت من أجل الحصول عليها، تاركا وراءك أحلاما نسجتها بخيالك عن الحياة بعد الجامعة، وأهدافا رسمتها وخططت لكل واحد منها دون إلمام بالواقع خارج أسوارها، تصطدم بعالم جديد تكسو معالمه تجاعيد البطالة وندرة فرص الشغل. تدرك حينها أنك لا تملك سوى خيارين اثنين: الأول أن تشمر عن ساعديك لتحاول مرة وتفشل مرات عدة أو أن تستسلم لأعذار تبدع في صياغتها كغيرك.
تعصف بك رياح اليأس العاتية لتوصد الأبواب في وجهك، ويسقط القناع عن القيمة الحقيقية لتخصص – اخترته على الأغلب هربا من آخر – اجتهدت طوال هذه السنين للتحصيل فيه. تقرع طبول حرب داخلية في نفسك، بين أمل تأبى له أن ينطفئ بسهولة وبين واقع مشؤوم تصيبك عدواه بمجرد ذكره.
في خضم مشاعرك المضطربة، تجلس على سجادتك في دجى الليل ملتحفا بوشاح الضعف والتذلل لتعرض عليه انكساراتك وخيباتك المتكررة. كل شيء من حولك ساكن إلا الفوضى الصاخبة التي تعتري داخلك. تتذكر فجأة قوله عز وجل: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ (سبأ، من الآية 39). وكأن مياه باردة قد سكبت على الجمرة المتقدة في صدرك. ويأتي الفجر بيوم آخر، عمر آخر، ضوء آخر، دروب تفتح وأرزاق توزع هنا وهناك.
لست سمكة في البحر ولا طيرا في السماء، ولكنك خلقت إنسانا، تملك من القوة ما تستطيع به أن تواجه عقبات الحياة، محافظا على غاية وجودك، حاملا رسالة الإسلام والتوحيد، ساعيا لتبليغها، فلم يغلبك العمل؟! لست مطالبا بالنتيجة، وحاشا أن يكون خالقك محاسبا يشتري عملك بمقابل متفق عليه، ولكنه سبحانه خير الرازقين؛ يمتحنك، ثم يخلف لك، يرزقك ويبارك لك فيه، فقط اسع واعمل.
لو صادفت يسرا في بداية الطريق فلا يغرنك ذلك، فلا زالت هناك منعرجات ومنحدرات للعبور. ستظلم وستضيق بك الطريق وستضل ربما وتسقط في الحفر.. لكنك ستستند وتقوم لوحدك مرة أخرى، ستنفض الغبار عن روحك المتعبة وتلملم شتات نفسك المحبطة لتكمل السير بصبر وعزم وتوكل.
في طريقك تسلح باليقين، وتزود بالتفاؤل وحسن الظن بالله وبقدراتك، وادفع عنك وساوس المحبطين البائسين، ولا تركن للكسل والخمول فتقع فريسة منهزمة أمام “غول البطالة”. لا تيأس ولا تسأم المحاولة، استعذب الوجع الخفيف الذي يصاحب كل خسارة. كن طامعا في المزيد من النجاحات، زاهدا في سفاسف الأمور وأقلها. واعلم أن النجاح يبدأ بخطوة، بفرصة، بكلمة مشجعة من أحد الأصدقاء.. بقشة.
أخطأت بتوجيه هذا الكلام لك أيها القارئ الكريم، فأنا أحوج له منك، وما هي إلا رسالة كتبتها لنفسي عند أول فشل فأحببت مشاركتك إياها.